الأصحاح الخامس
حنانيا وسفيرة
قدم لنا الإنجيلي لوقا صورة مفرحة للكنيسة ذات
القلب الواحد والنفس الواحدة مع شركة حية في العبادة والعطاء بسخاء. الآن يقدم
لنا صورة مؤلمة لأسرة تطلب مجد ذاتها بروح الكذب، وإذ كان هذا الأمر هو أول حدث
مؤلم داخل الكنيسة، كان رد الفعل حازمًا للغاية، ليقدم الروح القدس درسًا
قاسيًا لمن تسول نفسه لاستغلال الحب الأخوي. وقد انتهى الأصحاح بصورة مفرحة حيث
يغلب التهليل على حياة الكنيسة المضطهدة.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن ما حدث مع
حنانيا وسفيرة معجزة أعظم من معجزة شفاء الأعرج، لأنها تكشف عن معرفة الروح
القدس ما في القلب الخفي، ولأن ما حدث سبب خوفًا لدي كل السامعين.
نستطيع القول بأن المعجزتين متكاملتان، الأولى تكشف
عن حب الله الفائق وحنوه نحو الإنسان، وأن الله لم يطلب منه حتى أن يؤمن قبل
تلامسه مع الحب الإلهي، والثانية تكشف عن ضرورة الالتزام والأمانة في مخافة
للرب، خاصة لمن قبلوا الإيمان وتمتعوا ببركات إلهية، فالحب الإلهي مرتبط
بالمخافة، ومخافة الرب لا تنفصل عن الحب الإلهي.
١ - حنانيا وسفيرة ١ - ١١.
٢ - نمو الكنيسة المستمر ١٢ - ١٦.
٣- إلقاء الأيدي على الرسل ١٧ - ٢٣.
٤ - تهمة الاسم ٢٤ - ٣٢.
٥ - موقف غمالائيل ٣٣ - ٤٠.
٦ - كلمة الله لا تُقيد ٤١ - ٤٢.
١ - حنانيا وسفيرة
في الأصحاح السابق تحدث الإنجيلي لوقا عن الكنيسة
ككل وقد التهبت بروح الحب الحقيقي، ووُجد بينهم من هو مثل يوسف برناباس القبرصي
الجنس، باع حقله وقدم كل ثمنه عند أرجل الرسل. غالبًا ما كان غنيًا جدًا، وكان
ثمن الحقل فائقًا حتى ذكره القديس لوقا كمثلٍ حيٍ لما فعله المؤمنون في ذلك
الحين. لكن في نفس الوقت وُجد بين الحنطة زوان، وبين المخلصين في حبهم لله
والناس مراءون مثل حنانيا وسفيرة، يقدمون صورة جميلة في الظاهر، ويحملون قلبًا
مخادعًا مملوء كذبًا، محبًا للكرامة والمال والعالم. هذه الصورة كان لابد
للقديس لوقا أن ينقلها لنا حتى لا نضطرب حينما نجد في كل عصر عينات رائعة في
الحب، وأيضًا أمثلة مرة في الرياء.
"ورجل اسمه حنانيا وامرأته سفيرة،
باع ملكًا". [1]
"حنانيا" كلمة عبرية معناها "يهوه حنان"، أو
"منعم بسخاء". و"سفيرة" كلمة آرامية معناها "جميلة". إلاَّ أن كل منهما
حمل اسمًا على غير مسمى، فلم يكن حنانيا يتمثل بالله الكلي الحنو، ولا اهتمت
سفيرة بجمالها الداخلي.
v افتخر شاب غنى أنه يتمم كل متطلبات
الناموس، لكن الرب قال له (كما نقرأ في الإنجيل): "يعوزك شيء واحد، اذهب بع كل
مالك وأعطِ الفقراء... وتعالَ اتبعني" (مر 10: 22)... يقول الرب: "اذهب بع" ليس
نصيبًا مما لك بل "كل مالك وأعط الفقراء"، ليس لأصدقائك أو لأقاربك أو معارفك،
ولا لزوجتك وأولادك. اذهب إلى أبعد من ذلك: لا تحتفظ بشيء لنفسك خشية أن تفتقر
يومًا ما، لئلا بفعلك هذا تنال دينونة حنانيا وسفيرة؛ بل أعطِ كل شيء للفقراء،
واصنع لنفسك أصدقاء من مال الظلم، فيقبلونك في المساكن الأبدية (لو 16: 9).
أطع سيدك: "اتبعني"! واقتنى رب العالم كملكٍ لك،
فيمكنك أن تتغنى مع النبي: "نصيبي هو الرب" (مز 16: 5)، فتكون كلاويٍ حقيقيٍ،
ليس لك أي ميراث أرضي (عد 8: 20-24)...
لا أستطيع أن أنصحك إلا بهذا إن أردت أن تكون
كاملاً، إن رغبت أن تنال قمة مجد الرسل، إن أردت أن تحمل صليبك، وتتبع المسيح.
القديس جيروم
"واختلس من الثمن،
وامرأته لها خبر بذلك،
وأتى بجزء ووضعه عند أرجل الرسل". [2]
اقتضت أمانة القديس لوقا أنه كما سجل الوجه المشرق
المجيد للكنيسة في بدء انطلاقها، أن يسجل أيضًا موقف الكنيسة ممن قبلوا العضوية
فيها لكن بقلوب غير نقية ولا مخلصة. لقد سجل لنا ما فعله برنابا القبرصي الذي
قدم ثمن كل أرضه المتسعة عند أقدام الرسل حتى لا يستكثر أحد على الكنيسة أن
يقدم كل ماله كما يقدم حياته مبذولة. وها هو يسجل لنا تصرف حنانيا وسفيرة
اللذين حملا صورة التقوى في شكليات ظاهرة دون حب حقيقي داخلي.
في كل عصر يوجد أمناء باذلون حتى الحياة، ويوجد
داخل الكنيسة من يلتصق بالشكل دون الروح، ذلك من أجل محبتهم للعالم وارتباطهم
بالمادة.
في بدء انطلاق الشعب إلى أرض الموعد وُجد عخان بن
كرمي الذي اختلس وأخفي ما اختلسه وكذب، فصار في وسط إسرائيل حرام مما سبب هزيمة
الشعب (يش 7)، فرجمه جميع إسرائيل بالحجارة هو وأهل بيته. وها هنا في أرض
الموعد الجديدة، في بدء كنيسة العهد الجديد وُجد حنانيا ومعه زوجته سفيره
يكذبان على الروح القدس، ويختلسان من ثمن الحقل الذي كان في وسعهما - إن أرادا
- ألا يقدما ثمنه.
v الخداع هو عبادة أوثان، فيكونوا قد تمثلوا
باللذين ذُكرا في أعمال الرسل، اللذين باعا ميراثهما، وإذ احتفظا بجزء منه هلكا
بموتٍ سريعٍ فوريٍ.
تأمل يا أخي، فإنه ليس شيء هو لك كي تحفظه يقول
الرب: "من منكم لا يترك كل ماله لا يقدر أن يكون لي تلميذًا". لماذا تحمل قلبًا
مسيحيًا متذبذبًا؟
القديس جيروم
"فقال بطرس:
يا حنانيا، لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح
القدس،
وتختلس من ثمن الحقل؟" [3]
توقّع حنانيا أن يسمع مديحًا من الرسل ومن
المجتمعين حولهم، إن لم يكن علانية فخلال نظراتهم وحركاتهم، لكنه فوجئ باتهامٍ
موجه ضده، مع صدور حكم من الروح القدس يُنفذ فورًا! لم يُطلب منه دفاع وإثبات
سواء لخطيته أو لتبرئته، لأن الحكم لم يصدره إنسان، بل الروح القدس فاحص
القلوب.
كان يمكن للقديس بطرس أن يتحدث معه على انفراد،
ويسأله أن يعترف هو وزوجته بما ارتكباه من كذب، وأن يحزم حنانيا وسفيرة الأمر
بتوبتهما بغض النظر إن كانا يأخذا هذا المال ثانية أو يقدما كل المبلغ أو
يعترفا أمام الجميع أنه ليس بكامل الثمن، لكن الروح القدس يعلم أن قلبيهما
امتلأ شرًا، ولعل هذا الحدث جاء لملء كأس شر عاشا فيه زمانًا، ولم تعد هناك
فرصة للتوبة.
لم يقل له: "قد جربك الشيطان" أو "أوحى إليك
بالشر"، إنما يقول: "قد ملأ قلبك"، مما يشير إلى أن حنانيا قد
فتح القلب لعدو الخير ولأفكاره مرة ومرات، وتركه يدخل ويملك تمامًا، فملأ
القلب، ولم يعد للروح القدس موضع فيه.
"الشيطان" ومعناه "مخاصم"؛ وفي العبرية
معناه "يجول ذهابًا وإيابًا". يقول عنه الرسول بطرس: "يجول ملتمسًا من يبتلعه".
(1 بط 5: 8) ولما سأله الله من أين أتى أجاب: "من الجولان في الأرض ومن التمشي
فيها". (أي 1: 7)
v ينبغي أن تعرفوا بأننا نصير أجسادًا لهم
(الشياطين) حينما تقبل نفوسنا أفكارهم المظلمة الشريرة، وعندما يصيرون هم
ظاهرين بواسطة جسدنا الذي نسكن فيه.
v تعمل الشياطين خفية، ونحن نجعلهم ظاهرين
بواسطة أعمالنا.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
لما كان عدو الخير لا يهدأ من الجولان في الأرض
ليحطم النفوس، فإن الله في محبته يبحث عن هذه النفوس حتى لا تهلك، إذ "أعين
الرب الجائلة في الأرض كلها" (زك 4: 10)، وجاء رب المجد "يجول يصنع خيرًا". (أع
10: 38)
v خطط إبليس لا أن يسحبنا من البركات التي
لدينا، إنما يحاول أن يسحبنا إلى جرف صخري أكثر اندفاعًا. لكن الله في محبته لم
يفشل في الاهتمام بالبشرية.
لقد أظهر لإبليس كيف أنه غبي في محاولاته. لقد أظهر
للإنسان عظم العناية التي يظهرها الله له، فإنه بالموت وهب الإنسان الحياة
الأبدية. لقد سحب إبليس الإنسان من الفردوس، قاده الله إلى السماء. فإن النفع
أكثر بكثير من الخسارة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
لم يوبخ القديس بطرس حنانيا لأنه لم يقدم المبلغ
كله، إنما وبخه على الغش والكذب. لقد قدم جزءً من الثمن على أنه ثمن
الحقل كله، وبهذا يتمكن من أن يأخذ من الصندوق العام ما هو لمعيشته هو وأسرته،
فأراد أن يقتني المال مع المديح وينهب مما لا حق له فيه.
لعل حنانيا وسفيرة ظنا أنهما أحكم من كل الموجودين
لأنهما يقدمان نصيبًا مما لديهما ويحجزا ما تبقى خفية خشية الأيام الصعبة أو
الاحتياج. لم يثقا في كلمة الله ووعده وعنايته بهما، فانقسم قلب كل منهما بين
خدمة الله والاهتمام بالزمنيات.
خطيتهما أنهما ظنا بأنهما قادران أن يخدعا الرسل
وكل الكنيسة بأنهما تقيان، قدما كل ما عندهما، ولم يعلما أنهما إنما وجها هذا
العمل ضد الروح القدس قائد الكنيسة الذي لا تُخفى عنه القلوب.
بعدما تمتع حنانيا بالروح القدس فتح باب قلبه
للشيطان حتى يملأه ويملك عليه، فانحاز للشيطان ضد الروح القدس.
v يوجد فرق بين الأنبياء القدامى والأنبياء
الحديثين هكذا: تنبأ القدامى عن خلاص إسرائيل، ودعوة الأمم، وتجسّد المسيح،
بينما يتنبّأ الأنبياء المحدثون عن أمور معيّنة أو شعب معيّن كما تنبّأ بطرس عن
حنانيا كمثالٍ.
سفيريان أسقف جبالة
"أليس وهو باقٍ كان يبقى لك،
ولمّا بيع ألم يكن في سلطانك،
فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر؟
أنت لم تكذب على الناس، بل على اللَّه". [4]
كان يليق بحنانيا أن يتّعظ بجيحزي الذي ظنّ أّنّه
قادر أن يخدع معلّمه إليشع النبي فانطلق إلى نعمان السرياني يطلب فضّة وثيابًا،
وعاد يكذب على النبي. لقد فقد جيحزي تلمذته، وإمكانيّة العمل النبوي، وسمع
توبيخ معلّمه: "ألم يذهب قلبي (معك)؟" (2 مل 15). هذا وعلى مستوى الشعب يقول
الرب على لسان إرميا النبي: "لأنّه خيانة خانني بيت إسرائيل وبيت يهوذا يقول
الرب، جحدوا الرب وقالوا: "ليس هو، ولا يأتي علينا شرّ، ولا نرى سيفًا ولا
جوعًا" (إر 5: 11-12).
لم يكن على حنانيا التزام مادي كرهنٍ للأرض، ولا
معه أولاد لينفق عليهم، وكان يمكنه إن أراد أن يترك ما يشاء حتى المبلغ كله،
فليس من ضرورة تُلزمه بهذا التصرف. لأن المعطي بسرور يحبه الله (٢ كو ٩: ٧).
وحينما طلب القديس بولس من فليمون أن يقدم عفوًا عن عبده أنسيموس الهارب لم يرد
أن يكون ذلك قسرًا بل بكامل حرية إرادته (فل ١٤)، فإن الله لا يطلب العطية بل
القلب. إنه لا يقبل أن يسكن في القلب المنقسم بين ملكية الله عليه وملكية
إبليس، إذ لا يُسر باعوجاج الطرق، وأنصاف الحلول. وكما قال إيليا النبي: "إن
كان الرب هو الله فاتبعوه، وإن كان البعل فاتبعوه" (١ مل ١٨: ٢١).
أوضح الرسول بولس أن كل خطية موجهة في الواقع ضد
القدوس الذي بلا خطية، وكما يقول المرتل: "لك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت"
(مز ٥١: ٤).
v هل غضب بطرس، طالبًا موت حنانيا وسفيرة؟
قطعًا لا، إنما أراد الله ألا يهلك الآخرون باقتدائهم بهما.
v لقد هلك لأنه خدع، وكان يمكنه ألا يقدم
شيئًا بالمرة دون ممارسة الخداع. لكنه إذ دخل بالخداع إلى العمل لم ينتفع
بحريته بل دفع ثمن خداعه.
القديس أمبروسيوس
لم تكن خطية حنانيا في احتفاظه بجزء من المبلغ، بل
في كذبه وريائه حيث أراد أن يظهر كمن كرس حياته وممتلكاته بالكامل لله، بينما
يحتفظ في قلبه بمحبة المال وملكية عدو الخير عليه. إنها خطية التكريس الصوري
المزيف، إذ كذب على الله فاحص القلوب.
لقد قيل عن شاول الملك أنه فارقه روح الرب وبغته
روح شرير رديء من قبل الرب أو بسماحٍ منه (١ صم ١٦: ١٤). هكذا إذ نال حنانيا
الروح القدس لم يتجاوب معه، بل أصر على دخول الشر إلى قلبه ليملك فيه، فسقط تحت
الحكم.
يرى البعض أن صدور هذا الحكم الذي يبدو لنا أنه
سريع كان بسبب مركز حنانيا، إذ يرى لايتفوت
Lightfoot أنه كان من المائة والعشرين الذين حضروا يوم الخمسين، وكان له
دور فعّال للشهادة، لكن قلبه لم يكن مستقيمًا، ولا تجاوب مع الروح القدس. هنا
تظهر خطورة القائد في الكنيسة، متى نال موهبة الخدمة بالروح القدس، لكنه لم
يسلك بروح الله.
حينما يخطيء الإنسان، أيا كانت خطيته، فإن أبواب
الرجاء مفتوحة أمامه، يقوده إليها الروح القدس بالتوبة. أما من يكذب على الروح
القدس في تصميم وتنفيذ عملي، فإنه يعطي ظهره للروح القدس الذي يبكت على خطية،
فلا تجد التوبة لها موضعًا فيه. خطية الكذب تفسد الإنسان، وتنقله من البنوة لله
إلى البنوة لإبليس الكذاب وأب الكذابين (يو ٨: ٤٤).
v كان حنانيا فقيرًا عندما باع أرضه وقدم
المال للرسل، إذ لم يكن قادرًا أن يفي بالدين بل شغل نفسه بالأكثر (بالمال).
وكانت الأرملة غنية، هذه التي قدمت فلسين في الخزانة، التي قال عنها المسيح:
"هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع" (لو21: 3). فإن الله لا يطلب مالاً
بل إيمانًا.
القديس أمبروسيوس
v يجب على كل أحدٍ أن يعطى اهتمامًا عظيمًا
لئلا يسلبه "الكذب"، لأن الكذاب لا يتحد مع اللّه.
الكذاب غريب عن اللّه. ويقول الكتاب المقدس بأن
الكذاب هو من الشيطان إذ هو "كذاب وأبو الكذاب" (يو 44:8).
هكذا ُدعي الشيطان أبو الكذاب، أما الحق فهو اللّه،
إذ يقول بنفسه: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 6:14).
أما ترون إذن كيف أننا نصير غرباء عن اللّه بالكذب
وبمن نتحد (عن طريقه)؟! لذلك إن أردنا بحق أن نخلص، يلزمنا أن نحب الحق
بكل قوتنا وكل غيرتنا، ونحرس أنفسنا من كل كذب، حتى لا يفصلنا عن الحق والحياة.
الأب دوروثيؤس
v وعد حنانيا الله أن يعطيه كل أمواله
مترجيًا أن ينال مجدًا من الناس. لكن بحجزه جزءٍ من ثمن بيعه لممتلكاته لم يجنِ
سوى غضب الله، من خلال كذبه على بطرس الرسول، ولم يكن في قلبه مكان للتوبة.
القديس باسيليوس الكبير
لم تشغل قلوب الرسل كميات الأموال التي تقدم عند
أرجلهم، لكن ما كان يشغلهم الحب الذي في قلوب المؤمنين. لهذا فبروح القوة أراد
الرسول أن ينتزع قناع الرياء الذي ارتداه حنانيا ليخفي محبة العالم التي سيطرت
على قلبه. لم يشغله المال، بل النفوس لئلا تهلك حتى ولو قدمت أموالاً كثيرة
للخدمة الكنسية في أية صورة من صورها.
جاءت كلمة "اختلس" هنا في اليونانية ذاتها
التي ترجمت "خان" بالنسبة لعخان بن كرمي (يش 7: 1).
v من يبيع ممتلكاته لأنه يحتقرها ويطلب جحد
العالم يمكنه ألا تكون رغبته في بيعها كما لو كانت أمرًا عزيزًا لديه. لتعتبر
ما تنفقه على ثوب عرسك كمن يقتني مالاً.
يوجد قول قديم أن البخيل يفقد بقدر ما يحتفظ به من
مال كأنه لا يملكه.
المؤمن يملك عالم الغنى كله، وغير المؤمن ليس لديه
فلس واحد.
لنحيا دومًا كمن لا يملك شيئًا، ونحن نملك كل شيء
(2 كو 6: 10).
القوت والكسوة هما ثروة المسيحي (1 تي 6: 8).
إن كانت ممتلكاتك في سلطانك بعها، وإن لم تكن
فأطردها.
القديس جيروم
لم يتهمه القديس بطرس بأنه خدعه، وإنما حاول أن
يخدع الروح القدس. هنا واضح إدراك الرسول للروح القدس أنه ليس مجرد طاقة إلهية،
وإنما هو أقنوم إلهي، يتعامل معه الشخص ككائنٍ، إذ هو الله. فإن الخطية مثل
الكذب، لا تُوجه ضد سمة من السمات بل ضد الشخص. فالروح القدس ليس سمة إلهية بل
هو الله ذاته.
الروح القدس هو الله فاحص القلوب، يعرف ما فيها من
نية للكذب والرياء. فالروح يفحص كل الأشياء حتى أعماق الله (رؤ ٢: ٢٣)، يعود
فيدعوه الرسول بطرس "الله" [٤].
"فلما سمع حنانيا هذا الكلام وقع ومات،
وصار خوف عظيم على جميع الذين سمعوا بذلك". [5]
لم يصدر الحكم من بطرس الرسول شخصيًا إنما من الله،
وما على الرسول إلاَّ الإعلان عن الحكم.
حتمًا لم يسلم حنانيا الروح نتيجة صدمة نفسية، إذ
ظهرت أمام الجميع بشاعة خطيته التي لم يكن يتصور أن أحدًا ما سيعرفها، وإنما
كان ذلك بسماحٍ إلهيٍ لبنيان الكنيسة.
"خوف عظيم": كان موضوع الكرازة ينصب حول حب
الله الفائق للإنسان، وتقديره له. قلنا أننا حينما نتحدّث عن الحب يلزمنا ألا
نتجاهل "مخافة الرب" بأنواعها الكثيرة. فالمخافة لازمة وضروريّة تتلمذ المؤمن
الحقيقي كطفلٍ لترتفع به إلى الحب، أي تدخل به من الطفولة الروحيّة إلى النضوج
الروحي؛ وإذ تسلّمه للحب لا تفارقه مخافة الرب، إنما تهبه خبرة جديدة وعميقة
للمخافة. خبرة مخافة الابن التي لا تقوم على الخوف من العقوبة بل الابن الذي
يحب أباه، ولا يقبل أن يجرح أحاسيسه، ولو بفكرٍ واحدٍ غير لائقٍ بأبيه.
v ألا ترون كم من الشرور تنبع عن محبة
المال؟ "وصار خوف عظيم على جميع الذين سمعوا بذلك" [5]. عوقب ذلك الرجل،
وانتفع الآخرون بذلك. لم يحدث هذا بلا هدف.
ومع ذلك فقد سبق أن صُنعت آيات، لكن لم يوجد مثل هذا الشعور بالمخافة.
بالحق يقال: "معروف هو الرب بتنفيذ قضائه" (مز 9: 16). حدث نفس الأمر في شأن
التابوت، فقد عوقب عزة وحل الخوف على الباقين (2 صم 6: 7). في هذا المثال
استبعد الملك التابوت عنه خوفًا، أما هنا فقد صار التلاميذ حذرين بأكثر غيرة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v خوف الرب يحث النفس على حفظ الوصايا، وعن
طريق حفظ الوصايا يُشيد منزل النفس.
v إذًا ليتنا نخاف الرب ونُشيد منازل
لأنفسنا، حتى نجد مأوى في الشتاء حيث المطر والرعد، لأن من لا منزل له يعاني من
مخاطر عظيمة في وقت الشتاء.
v يقول يوحنا: "المحبة الكاملة تطرد الخوف
إلى خارج" (1 يو 8:4)، فلماذا يقول النبي الطوباوي داود: "اتقوا (خافوا) الرب
يا قديسيه" (مز 93:4)؟
هذا يكشف عن نوعين من الخوف:
النوع الأول أولي، والنوع الثاني خوف كامل.
الأول يخص المبتدئين، والثاني يخص القديسين
الكاملين الذين بلغوا إلى قامة الحب الكامل.
فمن يطيع إرادة اللّه بسبب خوفه من العذاب يكون
خوفه مبتدئًا. وأما الذي ينفذ إرادة اللّه بسبب حبه للّه لكي يرضيه، وقد بلغ
بهذا الحب إلى الخوف الكامل. وبواسطة هذا الخوف (الكامل) يخاف لئلا يفقد تلك
البهجة التي يتمتع بها بوجوده مع اللّه ويخشى لئلا يخسرها. هذا هو الخوف
الكامل، المولود من الحب، الذي يطرد الخوف البدائي إلى الخارج.
الأب دوروثيؤس
"فنهض الأحداث، ولفّوه،
وحملوه خارجًا، ودفنوه". [6]
جاءت الكلمة اليونانية المترجمة هنا "الأحداث"
لتشير إلى خدام يقومون بخدمة الجماعة، وقد استخدمت نفس الكلمة عن العسكر بكونهم
شبابًا (أع ٥: ١٠).
"ثم حدث بعد مدة نحو ثلاث ساعات أن امرأته دخلت،
وليس لها خبر ما جرى". [7]
يتساءل البعض لماذا أسرع الأحداث في تكفين حنانيا
وإخراجه خارجًا ودفنه دون أن يعطوا خبرًا لزوجته؟
v إذ دخل حنانيا بالمال بمفرده دون زوجته،
وحدث هذا الموقف غير المتوقع لم يفكر أحد في تبليغ زوجته، وربما لم يعرف
الكثيرون أنه متزوج.
v كان من عادة الفارسيين وربما اليهود تكفين
الجثمان ودفنه فورًا مادامت لا توجد النية في تحنيطه.
v كان الموقف مثيرًا للغاية، وبقاء الجثمان
في وسط الجمهور بهذه الصورة ربما يسبب تشويشًا وإثارة.
مجيء سفيرة بعد حوالي ثلاث ساعات، ربما لكي تنال
شركة مجد زمني مع رجلها الذي قدم المال، يدل على أنها غالبًا ما كانت خارج
أورشليم في بلدٍ بعيدٍ، لهذا جاءت مباشرة إلى الاجتماع ولم تكن تدري بما حل
برجلها.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه لم يجسر
أحد من الحاضرين أن يذهب ليخبر زوجته بما حدث، ولا عند دخولها أن يخبرها أحد،
لأن الخوف حلّ بهم.
"فأجابها بطرس:
قولي لي: أبهذا المقدار بعتما الحقل؟
فقالت: نعم بهذا المقدار". [8]
يرى البعض أن حنانيا كان قد جاء في وقت ممارسة صلاة
جماعية، وقد حمل في قلبه الكذب والخداع. وقد مرت نحو ثلاث ساعات وجاءت زوجته
لتشترك في الساعة التالية. كان لديها الفرصة لتصحيح موقف زوجها، لكنها إذ كانت
قد اتفقت معه على الاختلاس والكذب كذبت بإصرار: "نعم بهذا المقدار" [8].
v ربما عرفت من (قول الرسول) إن بطرس عرف
السرّ. فإنه لماذا لم يسأل أحدًا آخر بل سألها هي؟ أليس واضح من هذا أنه يسألها
لأنه عرف السرّ؟ لأن قسوتها كانت شديدة جدًا، لم تسمح لها أن تحاول الهروب من
الجريمة، بل بكل يقين أجابت، لأنها ظنت إنها تتحدث فقط مع إنسانٍ. خطورة الخطية
كانت تكمن في أنهما ارتكباها بنفسٍ واحدةٍ كما باتفاقِ بينهما مستقرِ.
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فقال لها بطرس:
ما بالكما اتفقتما على تجربة روح الرب،
هوذا أرجل الذين دفنوا رجلك على الباب،
وسيحملونك خارجًا". [9]
ما حدث لم يكن فكرة طارئة خطرت على حنانيا فنفذها،
لكنها خطة تكشف عما في قلبي حنانيا وسفيرة معًا، فالاثنان مشتركان في جريمة
الكذب، فكرًا وخطةً وتنفيذا.
"تجربة روح الرب": أرادا خداع الرب، كمن لا
يكتشف ما في قلبيهما من خداع ورياء وحب للكرامة ومحبة المال. فعلا هذا محاولين
أن ينظرا إن كان للروح القدس القدرة على إدراك جريمتهما.
إذ دخلت سفيرة إلى الرسل كان الأحداث قد قاموا
بتكفين رجلها، وحملوا الجثمان إلى القبر خارج الأسوار، وفي طريق عودتهم اقتربوا
جدًا إلى الوصول؛ كانوا لا يزالوا خارجًا عند الأبواب.
ما أجمل أن يتفق الزوجان معًا، لكن في الرب، لا في
الشر. فقد اتفق آدم وحواء في عصيانهما للرب فدمرا حياتهما.
"فوقعت في الحال عند رجليه وماتت،
فدخل الشباب،
ووجدوها ميِّتة،
فحملوها خارجًا،
ودفنوها بجانب رجلها". [10]
ربما يتساءل البعض لماذا تمت العقوبة بالنسبة
لحنانيا وسفيرة بهذه السرعة؟
1. إذ كانت الكنيسة في بدء انطلاقها، وكأول حدث في
العهد الجديد فيه خيانة لروح الله وعدم أمانة ممن نالوا الروح القدس كان لا بد
من عقوبة رادعة تبرز خطورة مقاومة الحق، والانحياز للشيطان، وفتح الباب له، لكي
يملك عوضًا عن الله. لقد قدم الرسل أعمالاً كثيرة تكشف عن حبهم كظلٍ لحب الله
المطلق، وكان يجب أيضًا أن توجد مواقف حازمة حتى لا يفقد المؤمنون مخافتهم
للرب. فالحب بلا مخافة صادقة يمكن أن يتحول إلى تسيب واستهتار، كما أن الخوف
بلا حب يتحول إلى يأسٍ ودمارٍ.
2. كان يلزم أن يعلن الروح عن تنقية هذه الجماعة
لتكون "كنيسة مقدسة بلا لوم"، فإنه لا يليق بكنيسة المسيح أن يوجد فيها مثل هذا
الإثم. مع بغض الله للخطية أيا كانت، إلاَّ أن الرياء هو أخطر الخطايا، إذ
يتسلل إلى الكنيسة، خاصة العاملين فيها. لهذا لم نسمع السيد المسيح يوبخ الزناة
والعشارين وينتهرهم، بل مع رفضه لخطاياهم كان يجتذبهم بالحنو. أما المراءون
فوبخهم بكل حزمٍ، في أكثر من موقف (مت ٢٣: ١ - ٣٨؛ مر ١٢: ١٥؛ لو ١٢: ١؛ ١ تي
٤: ٢؛ أي ٨: ١٣؛ ١٣: ١٦؛ ١٥: ٣٤؛ ٢٠: ٥؛ مت ٧: ٥؛ لو ١١: ٤٤). ما أراد الله أن
يؤكده هو ألاَّ تحمل كنيسة العهد الجديد ما تسلل إلى كنيسة العهد القديم في ذلك
الحين، وهو اتسام كثير من القادة بروح الكبرياء والزهو والرياء. كان الرب
مهتمًا بالنقاوة الداخلية للكنيسة، فمن لا يبالي بهذا يتعرض للتأديب. كما يقول
الرسول: "من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى، كثيرون يرقدون" (١ كو ١١: ٣٠).
3. مع ما اتسم به الرسل من بساطة في المظهر وفي
الحديث، أكد الروح القدس السلطان المُقدم لهم في المسيح يسوع لكي يقودوا
الكنيسة بروحه القدوس في طريق البرّ، في حنو وترفق بالنفوس التائبة مع حزمٍ
بسلطان ضد كل فسادٍ يمس الداخل. هذا واضح من موقف الرسول بولس من الشاب الذي
أراد أن تكون له امرأة أبيه (١ كو ٥: ١-٨) مطالبًا أن يُسلم مثل هذا للشيطان
لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع. استخدم الرسول بولس هذا السلطان
في التأديب السريع لعليم الساحر الذي كان يقاوم كلمة الله (أع ١٣: ٨: ١١).
4. في العهد القديم توجد مواقف كثيرة حلّ فيها
التأديب الفوري لأجل بنيان الجماعة الداخلي، كما حدث مع عاخان بن كرمي (يش ٧:
١-٢٤)، والذي كان يجمع حطبًا في يوم السبت كاسرًا وصية تقديس يوم الرب (عد ١٥:
٣٢ الخ). وكما فعل فينحاس الكاهن مع الرجل الإسرائيلي والمديانية حين ارتبط
الإسرائيليون بالوثنيات، واشتركوا معهن في تقديم ذبائح لآلهتهن (عد ٢٥).
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن حنانيا
وسفيرة حين اختارا بإرادتهما أن يبيعا ما لديهما ويسلما الثمن عند أرجل الرسل،
إنما قدما مالهما للتكريس، صار من نصيب الرب، مقدسًا لخدمته. وحين اختلسا من
الثمن، إنما اعتديا على مقدسات الرب، إذ أخذا ما هو مقدس للرب لاستخدامهما
الشخصي، وكأن خطيتهما هنا هي تعدي على مقدسات الرب.
يرى القديس أن ما فعله حنانيا وسفيرة يشبه ما حدث
قديمًا حين جمع رجل حطبًا في يوم السبت، فاعتدى على يوم الرب المقدس له، وحُسب
منتهكا للمقدسات، فاستحق الرجم.
v إن كان من أجل جمع الحطب رُجم الرجل (لأنه
دنَّس يوم السبت)، كم بالأكثر يستحق ذلك الذي يدنس المقدسات، لأن هذا المال قد
صار مقدسًا. ذاك الذي اختار أن يبيع ماله ويوزعه وبعد ذلك سحب منه جزءً، فإنه
قد دنس المقدسات... تدنيس المقدسات أيها المحبوبون هو أخطر جريمة، تحمل إهانة
واستخفافًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v ليكن مدحك صادرًا من معدة الجائعين، وليس
من ولائم المتخمين الفاخرة. نقرأ في أعمال الرسل كيف بينما كان دم الرب لا يزال
دافئًا وكان المؤمنون في حماس إيمانهم الأول باعوا ممتلكاتهم ووضعوها عند أقدام
الرسل (ليظهروا أنه يجب أن نطأ على المال بأقدامنا)، وكان يوزع على كل واحدٍ
كما يكون له احتياج (أع 4: 35). لكن حنانيا وسفيرة كانا وكيلين مملوءين جبنًا،
وما هو أكثر أنهما مخادعان، فجلبا لنفسيهما الدينونة (أع 5: 1-11). فإذ نذرا أن
يقدما مالهما لله كما لو كان هذا المال ملكهما وليس ملك الله الذي نذرا إليه
ذلك، احتفظا بجزء من ذاك الذي لا يخصهما، خشية حدوث مجاعة، الأمر الذي لن يخافه
الإيمان الحقيقي. جلبا لنفسيهما ضربة ناقمة مفاجئة التي لم يُقصد بها القسوة
ضدهما، وإنما لتحذير الآخرين. في الواقع لم يستدعِ الرسول بطرس الموت بأية
وسيلة عليهما كما يدعي برفوري Prophery في
غباوة. إنما أعلن حكم الله بروح النبوة، إن مصير الاثنين هو مثال للكثيرين.
منذ وقت تكريسكِ للبتولية الدائمة، لم تعد بعد
ممتلكاتكِ ملكًا لكِ، أو بالأحرى أنها بالحق قد صارت للمسيح. مادامت جدتكِ
ووالدتكِ عائشتين يلزمكِ أن تفعلي بالمال كما تشاءان. لكن عند موتهما وراحتهما
في رقاد القديسين (وأنا أعلم أنهما ترغبان في إحياء ذكراهما)، عندما تنضج سنينك
وتصيري أكثر ثباتًا، ويصير تصميمك أقوى، تفعلين بمالكِ ما يبدو لك أنه الأفضل،
أو بالأحرى ما يأمر به الرب، وتعلمين أنك لا تدخرين إلا ما تنفقينه على الأعمال
الصالحة.
قد يبني آخرون كنائس ويزينون حوائطها بعد بنائها
بالرخام والأعمدة الضخمة، ويطلون تيجانها بالذهب والزينة الثمينة، ويغطون أبواب
الكنيسة بالفضة، ويزينون المذابح بالذهب والحجارة الثمينة. لست ألوم من يفعلون
ذلك، لست أجحدهم. ليفعل كل واحدٍ حسب حكمه، ومن الأفضل أن ينفق الإنسان ماله
هكذا من أن يخزنه أو يرقد عليه.
على أي الأحوال واجبكِ مختلف عنهم. رسالتك أن
تكسي المسيح في الفقراء، وتزوريه في المرضى، وتطعيمه في الجائعين، وتحميه في
الذين بلا بيوت، خاصة الذين هم من أهل الإيمان، وأن تعيني جماعات العذارى، وأن
تهتمي بخدام إله المساكين بالروح؛ الذين يخدمون الرب نفسه ليلاً ونهارًا، الذين
يعيشون على الأرض الحياة الملائكية، ولا ينطقون إلا بتسابيح الله. إذ لهم
طعام وكسوة يفرحون حاسبين أنفسهم أغنياء. لا يطلبون أكثر من هذا، مقتنعون بما
يحفظهم في تدبير حياتهم. فإنهم إذ يبدأون يطلبون ما هو أكثر يظهرون أنهم ليسوا
أهلا حتى للضروريات.
القديس جيروم
"فصار خوف عظيم على جميع الكنيسة،
وعلى جميع الذين سمعوا بذلك". [11]
يقدم لنا القديس لوقا آثار ما حدث لحنانيا وسفيرة
على الكنيسة في ذلك الحين:
v اتسمت الكنيسة بالمخافة للرب، فصار الحب
لله ممتزجًا بمخافة صادقة [١١].
v إتمام عجائب كثيرة لكي يدرك الشعب أن الله
يعمل بالأكثر في حياة الكنيسة حين تكون جادة في حرصها على الحياة المقدسة
مُغتسلة من كل فسادٍ ظاهر وخفي.
v التصاق الكل معًا بروح العبادة الكنسية،
فحيث القداسة والتقوى توجد الوحدة الصادقة [١٢].
v خشي البعض [الآخرون] من الالتصاق بهم
[١٣]، لعله يقصد هنا بالآخرين الذين أرادوا الخدمة مع الرسل لكنهم لم يكونوا
مخلصين في تكريس حياتهم.
v اكتشف الشعب بهاء مجد الله في الرسل [١٣].
v عقوبة حنانيا وسفيرة لم تسبب نفورًا من
الكنيسة، بل جاذبية عجيبة، فانضم جمهور من الرجال والنساء إلى الكنيسة المقدسة
[١٤].
v اهتزت مدينة أورشليم بروح الرجاء، فصاروا
يحملون المرضى في الشوارع، لعل ظل بطرس يخيم عليهم [١٥]. واهتزت البلاد
المحيطة، فجاءوا بالمرضى إلى المدينة، ونال جميعهم الشفاء [١٦].
هذه هي المرة الأولى التي فيها يستخدم العهد الجديد
كلمة "الكنيسة"، وهي تشير إلى جماعة المؤمنين.
لماذا حلّ الخوف على جميع الكنيسة، وعلى جميع الذين
سمعوا؟ كان يليق بالمؤمنين ألا يخافوا، فالله نار آكله تأكل المقاومين، المصرين
على المقاومة، أما المخلصون في إيمانهم فتلهبهم نار إلهية مقدسة ومنيرة. لهذا
يرى البعض أن الخوف حلّ على الكنيسة، لأن ما فعله حنانيا وسفيرة يبدو أنه بدأ
يتسلل في وسط الجماعة. لهذا يحذر الرسول بولس: "لأن محبة المال أصل كل الشرور،
الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" (1 تي 6:
10).
٢. نمو الكنيسة المستمر
"وجرت على أيدي الرسل آيات وعجائب كثيرة في الشعب،
وكان الجميع بنفسٍ واحدةٍ في رواق سليمان". [12]
بعد أن حلّ على حنانيا وزوجته ثمر كذبهما على
الكنيسة بكونه كذبًا وخداعًًا لروح اللَّه القدّوس قائد موكب الكنيسة المقدّسة،
قدّم الروح سندًا لكنيسته بإجراء آيات وعجائب كثيرة على أيدي الرسل في الشعب،
ليس من أجل المؤمنين، وإنّما لأجل غير المؤمنين. هكذا إذ تتنقّى الكنيسة من
الفساد، يعمل روح اللَّه بقوّة، لكي يتجلّى المسيح القدّوس فيها، وتصير شاهدة
بالحق المقدّس أمام العالم. هذا وأمّا ثمره الرائع فهو وحدة الكنيسة التي كان
لها النفس الواحدة بالرغم من التزايد المستمرّ لعدد المؤمنين، فكانوا يجتمعون
في مكان متّسع "رواق سليمان".
v لم يعودوا إلى بيوتهم، بل بقوا في ذات
الهيكل يقضون هناك وقتهم. لم يحسبوا أنفسهم كمن لمسوا دنسًا؛ لا بل بدون تردد
حملوا الميت.
v لم يتنهد أحد، ولا بكى أحد عليهما، بل كان
الكل في خوفٍ. وإذ نما إيمانهم تضاعفت الآيات.
القديس يوحنا الذهبي الفم
"وأمّا الآخرون فلم يكن أحد منهم يجسر أن يلتصق
بهم،
لكن كان الشعب يعظمهم". [13]
يرى لايتفوت
Lightfoot أن "الآخرين" هنا تشير إلى بقية المائة والعشرين، إذ
كان حنانيا أحدهم. وإن كان كثير من الدارسين لم يقبلوا هذا التفسير. يرى البعض
أن الآخرين هنا هم مجموعة من المسيحيين واليهود التصقوا بالرسل على مستوى
الصداقة أو حب الاستطلاع أو مجرد الدهشة لما يحدث، فخشوا أن تنكشف نياتهم
الداخلية كما كشف الروح القدس ما يحمله حنانيا وسفيرة من غشٍ خفيٍ في القلب.
ويرى آخرون أن تعبير الآخرين يشير إلى بقية الأغنياء وأصحاب السلطة
الذين كان من بينهم حنانيا، فما حدث لحنانيا يُعتبر درسًا رادعًا لمن تسوله
نفسه أن يخدع الرسل البسطاء. ويبرر أصحاب الرأي الأخير ذلك بأن القديس لوقا
يميز بين هؤلاء الآخرين وبين الشعب في نفس الآية. فالآخرون هم الأغنياء
والعظماء، بينما البقية هم عامة الشعب الذين في بساطة القلب لم يخشوا ما حدث،
بل كانوا يعظمون الرسل. فما حدث لحنانيا هو مرعب للأغنياء العظماء وحدهم.
التصق الجميع معا بروح العبادة في رواق سليمان،
وكانت الآيات والعجائب على أيدي الرسل تعطي قوة للشهادة. وكانت القيادات
الدينية في موقف لا يحسدون عليه؛ فهم يخططون للإيقاع بهم وفي نفس الوقت يخشون
الجموع، إذ آمن كثيرون علانية، كما أدركوا أن كثيرين في طريقهم للإيمان إلا
أنهم يخشون المجاهرة بذلك خوفا منهم (أي من الرئاسات).
"وكان مؤمنون ينضمّون للرب أكثر،
جماهير من رجال ونساء". [14]
كان المسيحيون يدعون تلاميذ أو مؤمنين،
لأنهم يتبعون السيد المسيح كمعلمٍ ومربٍ لهم، ولأن حياتهم تقوم على الإيمان به.
لقد فقد رؤساء الكهنة والكهنة الكثير من إيراداتهم،
إذ تحول الكثيرون من تقديم ذبائح حيوانية ومالية للهيكل إلى خدمة الفقراء
والمحتاجين، حيث كانوا يلقون بالمال عند أرجل الرسل. بجانب ذلك فقدوا أيضًا
الكثير من مجدهم الزمني وسلطانهم الطاغي.
"حتى أنهم كانوا يحملون المرضى خارجًا في الشوارع،
ويضعونهم على فِرَش وأسرّة،
حتى إذا جاء بطرس يُخيم ولو ظلّه على أحدٍ منهم".
[15]
كلمة فرش klinoon
تشير عادة إلى الأسرة الفاخرة الناعمة التي غالبًا ما يستخدمها الأغنياء. هذا
معناه أن كثير من الأغنياء المرضى كانوا راقدين على أسرّة في الشوارع في طريق
القدّيس بطرس ومن معه من الرسل. وأما الأسرّة
krabatoon، فتشير إلى الفراش الخشن الرخيص الذي يستخدمه الفقراء (مر
2: 4، 9: 11-12؛ يو 5: 8-12). فقد التقى الفقراء مع الأغنياء في الشعور بالحاجة
إلى عمل اللَّه في حياة الرسل.
كانوا يحملون المرضى في الشوارع، ربما لأن الكهنة
لم يسمحوا لهم أن يأتوا بهم إلى رواق سليمان، ولم يكن لدى الرسل من الوقت
ليذهبوا إلى بيوت المرضى. كانوا يضعونهم على فرش وأسرة، ربما لأنهم كانوا
عاجزين عن الوقوف أو الجلوس في الشوارع يترقبون مرور أحد الرسل.
صورة رائعة لعمل الله الذي لا يُحد بمكانٍ معين؛
أينما حلّ أولاد الله يتقدس الموضع بروح الله الساكن فيهم ليمارسوا عمل الله
حتى في الشوارع.
ظل بطرس: وعد السيد المسيح تلاميذه أن باسمه
يتممون العجائب التي يعملها وأعظم منها (يو ١٤: ١٢). فما فعله السيد أن المرأة
نازفة الدم لمست هدب ثوبه فشُفيت، لأن قوة قد خرجت منه (مت ٩: ٢٠). أما بالنسبة
لبطرس فوهبه السيد المسيح أن بظله يشفي الذين يرقدون في الشوارع على فرش وأسرة
مرضى. لكن ما فعله السيد كان بقوته وسلطانه، أما ما تحقق ببطرس وغيره من الرسل
فكان باسم يسوع الناصري. حقًا إنه لحساب مجد المسيح تمت المعجزات الأعظم.
السيد المسيح هو شمس البرّ (ملا ٤: ٢)، إذ يشرق
بنوره على رسله فإن ظل الرسل يحمل قوة للشفاء، فماذا تكون الشمس ذاتها؟ لذلك
يقول ملاخي النبي: "ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البرّ والشفاء في أجنحتها"
(ملا ٤: ٣).
هذا وإن كان ظل بطرس يحمل تقديسًا ليعلن قوة الله
بشفاء المرضى، كم بالأكثر يكون جسده نفسه؟! هكذا يقدم لنا السيد المسيح نظرة
مقدسة للجسد، فلا نظن أنه عنصر ظلمة كما كان يظن الغنوصيون وأمثالهم. كل ما
خلقه فينا الرب صالح يتقدس بعمل روحه القدوس فينا.
v هذا لم يحدث في تاريخ المسيح، لكن انظروا
هنا ما قد أخبرهم قد تحقق أن الذين يؤمنون بي، فالأعمال التي أنا أعملها
يعملونها هم أيضًا ويعملون أعظم منها (يو 14: 12).
القديس يوحنا الذهبي الفم
"واجتمع جمهور المدن المحيطة إلى أورشليم،
حاملين مرضى ومعذبين من أرواح نجسة،
وكانوا يبرأون جميعهم". [16]
إذ تقدس الرسل كان روح الله يعمل بهم حتى خلال ظلهم
أو الخرق التي يضعونها على أجسامهم. إذ كان قلب الرسول متسعًا بالحب، مشتاقًا
إلى راحة الجميع، لهذا كان يعمل بهم الروح القدس بكل وسيلة ليهبهم سؤل قلوبهم.
كما كان الرسل يشتاقون إلى خدمة الجميع، كان
المؤمنون أيضًا من جانبهم في حالة إيمان ويقين أن الله يهب نعمه وخيراته خلال
الكنيسة، فكانوا يأتون بالمرضى والمعذبين من أرواح نجسة من المدن المحيطة
بأورشليم، وقد آمنوا أن الله يعمل ولو بظل الرسول. تحولت الشوارع إلى مستشفي
عام ممتلئة بالمرضى، وامتلأت تسبيحًا وشكرًا لله على عمله معهم.
٣- إلقاء الأيدي على الرسل
"فقام رئيس الكهنة وجميع الذين معه الذين هم شيعة
الصدوقيين،
وامتلأوا غيرة". [17]
بينما كانت الكنيسة، خاصة الرسل، تمتلئ من الروح
القدس (4: 8) للشهادة للسيّد المسيح واهب الخلاص للعالم، إذا بالعدو يقف
بالمرصاد. وجد في أحد الخدّام المرائيّين، حنانيا، فرصة فملأ قلبه [3] ليكذب
على الروح القدس واهب التوبة، وقائد موكب الكنيسة. الآن يعمل خلال رئيس الكهنة
ومن معه (شيعة الصدّوقيّين) الذين ملأ الحسد (الغيرة) قلوبهم. لقد أعلنوا
عداوتهم للسيّد المسيح ولإنجيله وكنيسته، فخطّطوا للقبض على الرسل، ولم يدركوا
إنّما بهذا يقتلون أنفسهم. يُقال "الحسد يذبح السخفاء". لقد تصرّفوا في سخافة
لا تليق بهم كقادة روحيّين.
لم يستطع رئيس الكهنة ومن معه من شيعة الصدوقيين أن
يروا رواق سليمان قد اكتظ بجمهور المؤمنين بالسيد المسيح كما امتلأت الشوارع
والميادين بالتسبيح والتشكرات التي يقدمها المرضى الذين تمتعوا بالشفاء. إن
كانوا قد تخلصوا من يسوع الناصري بصلبه، فهوذا قد قام وتحولت الجماهير إلى
الإيمان به.
كان الفريسيون يبغضون الصدوقيين بغضة شديدة، أشد
تأصلاً في نفوسهم من مقاومتهم للمسيحيين. وقد استغل الرسول بولس ذلك حين وقف
يحتج في غرفة المحاكمات بالهيكل (أع 33: 6-9).
لقد حسد رئيس الكهنة ورجاله والصدوقيون الرسل،
وامتلأوا سخطًا عليهم، خاصة وقد أدركوا تزايد عدد القابلين للإيمان المسيحي،
والذين لم يعودوا يبالون بسلطة مجمع السنهدرين.
"فألقوا أيديهم على الرسل،
ووضعوهم في حبس العامة". [18]
بدأت حرب عدوّ الخير في الداخل كما في الخارج
مبكّرة جدًا، منذ بدء انطلاق الكنيسة. هذه هي المرّة الأولى التي فيها أُلقي
الرسل في السجن؛ قبلاً اكتفى القادة بتهديد الرسولين بطرس ويوحنّا (أع4: 21)،
أما الآن فألقوا القبض على الرسل وسجنوهم في الحبس العام. لم يبالِ رئيس الكهنة
ومن معه بما يحدث إن ألقوا القبض على الرسل، فإنهم حسبوا أنه لن يحدث لهم أسوأ
مما هم عليه.
أُلقي القبض عليهم ووُضعوا في السجن، حتى لا يلتف
الشعب حولهم. هذا وبإلقائهم في الحبس العام يجعلونهم في عارٍ مع المجرمين، فلا
يعود الشعب يعظمهم.
غالبًا ما يقصد برئيس الكهنة قيافا، وجميع الذين
معه، أي الحاملين ذات أفكاره من جهة كراهيته للسيد المسيح وعدم قدرته أن يرى
الكرازة بالإنجيل تنتشر. وأما الصدوقيون فكانوا في ذلك الوقت يمثلون غالبية في
مجمع السنهدرين، قادرين على أخذ القرار. وقد التجأ إليهم رئيس الكهنة، ولم
يلتجئ إلى الفريسيين الذين أخذوا دورًا خطيرًا في مقاومة السيد المسيح
ومحاكمته، ذلك لأن الفريسيين مع كراهيتهم للسيد المسيح إلا أن الكرازة بقيامته
تحطم تعاليم الصدوقيين الذين لا يؤمنون بالقيامة من الأموات. لهذا السبب لم يكن
الفريسيون متحمسين لمقاومة الرسل.
"ولكن ملاك الرب في الليل فتح أبواب السجن،
وأخرجهم وقال". [19]
جاء التعبير اليوناني هنا يشير إلى أحد الملائكة
وليس إلى ملاكٍ معينٍ.
إذ ملأ عدوّ الخير قلوب رئيس الكهنة ومن معه
بالغيرة الشرّيرة، أحكم إغلاقها حتى يملك عليها تمامًا، ويسيطر بظلمته عليها،
فيقاوموا نور الإنجيل المفرح. وقد ظن هؤلاء أنّهم قادرون على حبس الرسل في عارٍ
وفضيحة وإغلاق الأبواب أمامهم لكي لا يلتقوا بأحدٍ، ولم يدركوا أن الرب حال
فيهم، والسمائيّون يشتهون العمل لحسابهم في الرب. لا يوجد سجن مظلم وأبوابه
محكمة وحرّاسة أقوياء أمام الرب. فكما لم يستطع القبر أن يحبس جسده، ولا الجحيم
أن تغلق أبوابها على نفسه، هكذا لا تستطيع سجون العالم أن تحبس جسده، الذي هو
الكنيسة.
أغلقوا عليهم في السجن، فانفتحت أمامهم أبواب
السماء. لم يكن ممكنًا للعالم أن يقيد كلمة الله، إذ أرسل السيد المسيح ملاكه،
وفتح أبواب السجن وأخرجهم، وطلب منهم أن يتكلموا في الهيكل مجاهرة. في وسط ظلمة
الليل، انفتحت أبواب الظلمة، السجن، إذ لم يكن ممكنًا أن تقيد أبناء النور
وتحبسهم.
خرجوا ليشهدوا لقيامة السيد المسيح، لا ببراهين
خارجية، بل في أجسادهم حيث انحلت عنهم القيود، وتركوا السجن فارغًا والأبواب
مغلقة، كما خرج الرب من القبر والحجر عليه بختومه.
وقفت قوات الظلمة تحاربهم، وحارب أب الأنوار
لحسابهم، فأرسل ملاك النور يظهر براءتهم أمام مقاوميهم كما أمام الشعب. لن يقف
الرب مكتوف الأيدي ولا يتخلى عن الشاهدين له بل يعزيهم ويدافع عنهم ويحملهم كما
بذراعيه!
لم يكن ممكنًا لأبواب السجن وحصونه المنيعة ولا
للقيود ولا للحراس بكل أسلحتهم أن تقف أمام ملاك الرب السماوي.
"اذهبوا قفوا وكلموا الشعب في الهيكل،
بجميع كلام هذه الحياة". [20]
ظهور الملاك وخروجهم من السجن كان من أجل القيادات
اليهودية القادمة لتدرك أنها إنما تقاوم ملك السماء باطلاً، وأن كل مقاومة
حتمًا تحقق مجدًا لانجيل المسيح. وفي نفس الوقت يعطي دفعة للرسل وللمحيطين بهم
للعمل بالأكثر لحساب ملكوت الله. هذا وأن ما حدث يؤكد للشعب صدق الإنجيل وتحقيق
مواعيده.
كانت الرسالة الصادرة للرسل هى الشهادة العلنية
في الهيكل، أي في بيت أبيهم، الذي تشتهي السماء ألا يخرب، بل يبقى مصدر
إشعاع للحب الإلهي وكرازة بالخلاص للعالم كلّه.
وجّهتهم السماء إلى الكرازة للشعب، وليس
للكهنة ولا للقيادات التي تهوى الحوار الغبي، وتحمل في الداخل مقاومة غبيّة
للحق، مع كبرياء واعتداد بالذات. إنها تطالبهم للكرازة للشعب، فإن كل نفس ثمينة
في عينيّ اللَّه دون تمييز بين القادة والشعب.
تسألهم السماء أن ينطقوا "بجميع كلام هذه الحياة"،
أي الحياة الأبدية. كلمة "الحياة" هنا تحوي الإيمان كله الذي غايته
الدخول إلى الحياة الأبدية. أي يقدّموا خبرة قيامتهم مع المسيح، وتمتّعهم
بالحياة السماويّة الجديدة، التي لم يكن ممكنًا لرئيس الكهنة ومن معه أن
يذوقوها، مادام عدوّ الخير قد ملك بالحسد على قلوبهم. موضوع كرازتهم ليس
التباهي بالمعجزات، ولا قدرة السماء على فتح أبواب السجن، ولا الدخول في
مناقشات غبيّة، وإنّما تقديم خبرة عذوبة الحياة في المسيح يسوع كما يعيشونها
تحت أي ظرف وفي أي موضع.
لم يخرجوا من السجن لكي يهربوا إلى موضع آمن، بل
لينطلقوا إلى الهيكل يسبحون الله، ويشهدون للحق. لقد خرجوا لتترنم نفوسهم،
قائلة: "لتُحي نفسي وتسبحك وأحكامك لتُعني" (مز 119: 175). "اخرج من الحبس نفسي
لتحميد اسمك؛ الصديقون يكتنفونني، لأنك تحسن إليّ" (مز 142 : 7). "لتفتح عيون
العمي، لتخرج من الحبس المأسورين، من بيت السجن الجالسين في الظلمة (إش 42 :
7).
"فلما سمعوا دخلوا الهيكل نحو الصبح،
وجعلوا يعلِّمون.
ثم جاء رئيس الكهنة والذين معه،
ودعوا المجمع وكل مشيخة بني إسرائيل،
فأرسلوا إلى الحبس ليُؤتى بهم". [21]
ظن رئيس الكهنة ومن معه أنّهم قد أحكموا الخطّة،
وأنّهم قد قضوا تمامًا على هذه الحركة الجديدة، فدعوا المجمع وكل المشيخة
لاستعراض بطولتهم في العمل، وغيرتهم على مجد إسرائيل. يقدّر البعض عدد الحاضرين
بمائة وستة عشر قاضيًا.
لو أن الرسل كانوا قد هربوا من السجن، لكانوا قد
اختفوا حتى لا يُلقى القبض عليهم، أما أن يعودوا للتعليم داخل الهيكل، فلا
تفسير له سوى أن خروجهم كان بقوة سماوية تتحدى القوات المقاومة، لا تهاب السجن
أو القيود.
لم يخرج الرسل من السجن ليكرزوا في مكانٍ خفيٍ
بعيدٍ عن الهيكل، لكن صدر إليهم الأمر من السماء أن يذهبوا إلى الهيكل ليكرزوا
علانية وسط الجماهير. تريد السماء أن تعطي لليهود فرصة جديدة لاستخدام بيت الرب
في الشهادة لله وعمله الخلاصي، بعد أن صيروه بيت تجارة ومغارة لصوص.
لقد انطلقوا في الصباح المبكر إلي الهيكل دون دخولٍ
في حوارٍ فيما بينهم، لأن الأمر صادر من السماء للعمل لحساب ملكوت الله،
وللشهادة بجميع كلام الحياة الأبدية. ليس من وقت لأي حوار فيما بينهم، بل الوقت
مقصر والأيام شريرة، فيلزم استغلال كل فرصة للعمل الكرازي. صاروا يعلمون في
رواق سليمان عن خلاص كل نفس، وعن عمل الله من أجل البشرية. لم يتحدثوا عن
أنفسهم كأبطال احتملوا السجن، وإنما عن الله كمحبٍ للبشر.
"ولكن الخدام لمّا جاءوا لم يجدوهم في السجن،
فرجعوا وأخبروا". [22]
غالبًا ما قدّم رئيس الكهنة خطابًا افتتاحيًا
حماسيًا يقدّم فيه موجزًا لأعماله وجهاد من معه في حسم الموقف. وإذ انتهى
الخطاب، دخل خدّام الهيكل يقدّمون نبأ عدم وجود الرسل في الحبس العام. ظن رئيس
الكهنة أنّه ومن معه في أوج عظمتهم، فقد سحقوا هذه البدعة، ولم يدركوا أن
الساكن في السموات يضحك، الرب يستهزئ بهم" (مز 2: 4). لقد صاروا في حالة إحباطٍ
شديدةٍ وأصاب الخزيّ وجوههم.
"قائلين إننا وجدنا الحبس مغلقًا بكل حرص،
والحراس واقفين خارجًا أمام الأبواب،
ولكن لمّا فتحنا لم نجد في الداخل أحدًا". [23]
التأم مجمع السنهدرين ومعه كل مشيخة بني إسرائيل،
وإذ طلبوا الرسل لمحاكمتهم فوجئوا بالسجن فارغًا والأبواب مغلقة والرسل غير
موجودين. الآن حدثت معجزة لها خطورتها، فقد بلغ التحدي بين اتباع المصلوب
وصالييه الذروة.
عجيبة هي أعمال اللَّه، فإنّه فتح أبواب السجن،
وأخرج الرسل معًا بواسطة ملاكه، بينما كان الحرّاس واقفين. ألم يروا الملاك
يفتح الأبواب؟ ألم يروا البواب مفتوحة؟ وكيف يخرج هذا العدد ولم يروهم؟
وجود الحبس مغلقًا، أي الأبواب سليمة لا معنى له
سوى تدخّل السماء في الأمر، لأنّه ما كان يمكن للشعب أو لأصدقاء الرسل أن
يخرجوهم من الحبس دون كسر الأبواب أو هدم الأسوار والدخول في معركة مع الحرّاس.
لكن شيئًا من هذا القبيل لم يحدث.
لو أن الحرّاس تعاطفوا معهم أو أخذوا رشوة لما
وقفوا في حراسة مشدّدة والحبس فارغ.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن ما حدث هنا
يشبه ما حدث في قبر السيد المسيح، فقد كانت الأختام موضوعة والحراس ساهرين
والقبر فارغًا، لأن يسوع قام. هكذا وهب تلميذيه أن ينطلقا ويبقى السجن كأنه قبر
فارغ بينما كانت الأبواب مغلقة والحراس واقفين خارجًا!
هذا هو عمل القيامة اليومي في حياة الكنيسة،
فالعالم مصمم أن يدفنها في مقبرة، أو يكتم أنفاسها في سجنٍ، لكن تبقى الأختام
موضوعة والحراس واقفين خارجًا وتنطلق الكنيسة للشهادة للقائم من بين الأموات.
جاءت شهادة الجند أن أبواب السجن مغلقة، حتمًا كان
خروجهم بيدٍ إلهيةٍ تتحدى قوانين الطبيعة. ليس من خيانة ولا رشوة، فالحراس
كانوا واقفين في الخارج في يقظة وتحفظ، ليس من يقدر أن يدخل سوى قائد جند
الهيكل ومعه جنوده.
v لاحظوا كيف أنهم يحاربون الله! قولوا لي
هل ما حدث معهما هو من عمل إنسان؟ من الذي أطلقهما بينما كانت الأبواب مغلقة؟
كيف خرجوا والحراس واقفون خارجًا أمام الباب؟ حقًا إن الذين يقولون هذا هم
مجانين أو سكرى. هنا أناس لم يقدر السجن ولا القيود ولا الأبواب المغلقة أن
تحبسهم في الداخل، ومع هذا يظنون أنهم يقدرون أن يغلبوهم، يا لها من غباوة
طفولية! لقد جاء خدامهم (الجند) واعترفوا بما حدث، وكأنهم عن عمدٍ يحذروهم من
كل تصرف بدون تعقل.
القديس يوحنا الذهبي الفم
٤ - تهمة الاسم
"فلما سمع الكاهن وقائد جند الهيكل ورؤساء الكهنة
هذه الأقوال،
ارتابوا من جهتهم ما عسى أن يصير هذا". [24]
رجع الخدام أو جند الهيكل في عارٍ وخزيٍ، لأن
الساكن في السماوات الرب يستهزئ بهم (مز 2: 4). يمكن أن نتصور رئيس الكهنة
كرئيس لمجمع السنهدرين وقد اجتمع بالأعضاء باكرًا في جدية، في استخفافٍ عن
الجليليين الأميين البسطاء، وحسبهم أنهم في خزيٍ وعارٍ لأنهم في السجن العام،
وأن هذه الحركة لن تدوم! لكن سرعان ما عاد الجند في خيبة أملٍ، فأبواب السجن
مغلقة والمتاريس سليمة والحراس في يقظة يحرسون السجن، وكل المساجين في أماكنهم
أما الرسل فغير موجودين!
حتمًا حدث ارتباك عظيم، كل يقدم ظنونه وأفكاره:
ألعلهم سحرة استطاعوا الخروج من السجن والأبواب مغلقة؟ أو لعلهم رشوا حارس
السجن وهربوا؟ وإلى أين يهربون؟ هل انطلقوا خارج أورشليم ليكرزوا من وراء
أعيننا؟ ألعلهم رجال الله وما نفعله هو مقاوم للحق؟
"ثم جاء واحد وأخبرهم قائلاً:
هوذا الرجال الذين وضعتموهم في السجن هم في الهيكل،
واقفين يعلِّمون الشعب". [25]
سقط أعضاء المجمع وشيوخ إسرائيل في حالة ارتياب
وحيرة، ما عسى أن يكون الأمر. هل توجد خيانة بين المسئولين عن السجن. وكيف يمكن
لخائنٍ أن يتمم خطته دون اكتشافها؟ ثم كيف خرجوا؟ هل اخترقوا الجدران؟ هل هذا
عمل سماوي فائق؟ ثم ما موقف المجمع ومن معه؟
"حينئذ مضى قائد الجند مع الخدام،
فأحضرهم لا بعنفٍ،
لأنهم كانوا يخافون الشعب لئلاّ يُرجموا". [26]
بلا شك بدأت قصة خروجهم على يد ملاك الرب تنتشر،
وتجمهر الشعب حولهم. أما قائد الجند مع الخدام فأحضر الرسل بغير استخدام العنف
خوفًا لئلا يرجمهم الشعب. لم يخشوا مقاومتهم لله والحق، إنما خشوا على أنفسهم
من الشعب.
لم يستخدموا اللطف في استدعائهم للمجمع عن توقير
للهيكل وقدسيّته، ولا عن احترام للقانون ألا يستخدموا العنف حتى تثبت الاتهامات
ضدّهم، ولا لأنّهم خشوا غضب السماء فيحل عليهم ما حلّ على رئيس الخمسين، الذي
أراد استدعاء إيليّا بالعنف، فنزلت نار من السماء وأكلته هو والخمسين الذين له
(2 مل 1: 10). وتكرّر الأمر مع رئيس الخمسين الآخر ومن معه (2 مل 1: 12).
لم يستغل الرسل الفرصة، فيقاومون قائد جند الهيكل،
معتمدين على إمكانية قيام الشعب بالثورة ضده هو وجنوده، لكن إذ طلب القائد
الذهاب معهم لاستجوابهم انطلقوا معه في بساطة قلب. إنها فرصة رائعة للشهادة من
جديد أمام مجمع السنهدرين!
v يا لهم من أغبياء! يقول: "كانوا يخافون
الشعب" [26]. لماذا؟ كيف كان يمكن للشعب أن يسندوا التلاميذ؟ مع أنه كان
يجب عليهم أن يخافوا الله الذي كان يخلصهم على الدوام كأنهم خليقة مجنحة
وينقذهم من سلطانهم، لكنهم عوض هذا "كانوا يخافون الشعب".
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فلما أحضروهم، أوقفوهم في المجمع،
فسألهم رئيس الكهنة". [27]
إذ أحضرهم قائد جند الهيكل بكل وقارٍ وتكريمٍ، خشية
على حياته وحياة جنوده لئلا يرجمهم الشعب الذي التف حول الرسل، وقف رئيس الكهنة
كرئيس للمجمع يتكلم باسم المجمع، موجهًا التهم ضدهم.
"قائلاً: أمّا أوصيناكم وصية أن لا تُعلموا بهذا
الاسم،
وها أنتم قد ملأتم أورشليم بتعليمكم،
وتريدون أن تجلبوا علينا دم هذا الإنسان". [28]
العجيب أن رئيس الكهنة لم يسألهم عن كيفية خروجهم
من السجن، فإن كل ما يشغله أن يوقف الشهادة لاسم يسوع الناصري.
وجه رئيس الكهنة إلى الرسل اتهامين:
الاتهام الأول: عصيان الأوامر الصادرة إليهم،
فحسبهم متمردين على السلطة وكاسرين للقوانين، يمارسون الكرازة بدون تصريح من
السلطة، أي من مجمع السنهدربن.
الاتهام الثاني: وهو الأهم والأخطر، أنهم
يجلبون دم يسوع عليهم. لعلهم كانوا يعانون في ضمائرهم من الشعور بالذنب كقتله
وكسافكي دم السيد المسيح البريء. لعل منظر صلب هذا البريء لم يفارق أنظارهم
الداخلية.
جاء حديث رئيس الكهنة يكشف ما في قلبه وقلوب أعضاء
المجمع، وهو أن هؤلاء الأميّين استطاعوا أن يجتذبوا أورشليم إلى تعاليمهم،
فنالوا مركز القيادة، وصار لهم اعتبارهم الذي فاق ما يناله المجمع نفسه. هذا ما
نلمسه من قوله: "قد ملأتم أورشليم بتعليمكم".
"وتريدون أن تجلبوا علينا دم هذا الإنسان"،
لأن تعليم الرسل وكرازتهم إنما تدفع الشعب لاتهام مجمع السنهدرين أنه حكم على
يسوع بالموت خطأ، وأنه سفك دمًا بريئًا. وكأن تعليمهم تحريض غير مباشر للشعب ضد
السنهدرين.
"فأجاب بطرس والرسل وقالوا:
ينبغي أن يُطاع اللَّه أكثر من الناس". [29]
لم يقدّم القدّيس بطرس أو أحد التلاميذ تعليلاً
لنشر التعليم في أورشليم أنّه بسبب المعجزات التي صنعوها والتي لا يقدر أحد أن
ينكرها، ولا أشاروا إلى تمتّعهم بموهبة التكلّم بالألسنة كعطيّة سماويّة، ولا
عزّوا هذا لحكمتهم وقدرتهم، إنّما لأن العمل هو من اللَّه، والتعليم سماوي،
يحمل في ذاته جاذبيّة للنفوس. ما فعله الرسل هو الطاعة للوصيّة الإلهيَّة
والشهادة لخطّة اللَّه الخلاصيّة بكل شجاعة، لأن العمل ليس عملهم، إنّما هو عمل
اللَّه نفسه.
جاءت الإجابة صريحة وواضحة ومختصرة: "ينبغي أن
يُطاع الله أكثر من الناس " [29].
v يا لها من شهامة عظيمة! لقد أظهرهم أنهم
يحاربون الله.
v ليتنا نتمثل بهم يا أحبائي، لنكن شجعان في
كل مخاطرنا. لا يوجد ما يرهب ذاك الذي يخاف الله، وإنما تحل كل المخاوف على
الآخرين. فعندما يتخلص إنسان من أهوائه، ويحسب كل الأمور الحاضرة كظلٍ، أي شيء
يكون مخيفًا بالنسبة له؟ ممن يخاف؟ إلى من يحتاج أن يتوسل؟ لنهرب إلي هذه
الصخرة (المسيح) التي لا يمكن أن تهتز... والأمر الأكثر عجبًا أن الأمور التي
يُظن أنها تسبب قلقًا تصير مصدر كل فرحٍ وبهجةٍ... فإنه مستحيل، يستحيل على
الكلمات أن تعبر عن أية مسرة عظيمة تصير نصيب من يتألمون لأجل المسيح. فإنهم
يفرحون في آلامهم أكثر من فرحهم في خيراتهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v بدون قوّة الروح ارتعب بطرس أمام صوت
جارية؛ وبالروح وقف أمام رؤساء وملوك.
القديس جيروم
v إن كانت أوامر الإمبراطور أو القائد صالحة
فلتتبّع إرادة من أصدر الأمر. وإن كانت شرّيرة ضد اللَّه، فأجب عليها بكلمات
أعمال الرسل: "ينبغي أن يُطاع اللَّه أكثر من الناس" [29].
القديس جيروم
"إله آبائنا أقام يسوع الذي أنتم قتلتموه،
معلقين إيّاه على خشبة". [30]
"هذا رفعه اللَّه بيمينه رئيسًا ومخلصًا،
ليُعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا". [31]
رفعه الله الآب بيمينه، فإذ احتل مركزنا قدم أعماله
الخلاصية باسمنا ولحسابنا، حتى متى صعد يصعدنا معه، وإذ يرفعه الآب إلى المجد
الذي له أزليًا، والذي أخفاه لحسابنا، حتى متى ناله نناله نحن فيه. رفعه أيضًا
يشير إلى قبول الآب لشفاعته الكفارية أو لذبيحته من أجلنا، ومصالحتنا مع الآب.
وأيضًا برفعه وهب رسله روحه القدوس (يو 16: 7-11؛15: 26) للعمل باسمه لخلاص
العالم، وتمتعْ المؤمنين بغفران الخطايا وشركة المجد الأبدي.
هنا يكشف الرسول عن لاهوت السيد المسيح بكونه عن
يمين الآب الرئيس والمخلص واهب التوبة وغافر الخطايا، كما يكشف عن مفهوم التوبة
أنها عطية إلهية يهبها السيد المسيح لإسرائيل الجديد، وأنه لا خلاص لإنسانٍ ما
لم يعترف في تواضع بخطاياه لينال المغفرة. وأخيرًا فإنه ليست خطية مهما بدا
جرمها يمكن أن تقف عائقًا أمام نوال المغفرة، لأن المخلص قدير في عمله الخلاصي.
في اختصار شديد قدّم الرسل صورة حيّة لشخص يسوع
المسيح الذي يكرزون به وهي أنّه:
أولاً: الرئيس، تسلّم الرئاسة، لا من
الناس، بل من اللَّه أبيه، فإن كان بحبّه تواضع، أخلى ذاته، إنّما ليملك على
القلوب، وتكون له الرئاسة على حياة محبّيه الداخليَّة.
ثانيًا: المخلّص، لا يمكن لإنسان أن
يختبر عذوبة خلاصه، ولا أن يكتشف سرّ صليبه كقوّة اللَّه للخلاص ما لم يقبله
أولاً "رئيسًا". فمن يفتح قلبه له يكتشف رئاسته التي تقوم على حبّه
الإلهي الفائق، وعمل الخلاص المجّاني، لذلك جاء لقب رئيس قبل مخلص.
ثالثًا: معطي التوبة، بدونه لا يقدر
الإنسان أن يدرك خطاياه ليعترف عنها، محوّلاً وجهه للمصالحة مع اللَّه ببهجة
قلبٍ. وإن أدرك خطاياه بالناموس الطبيعي أو الموسوي يعجز أن يحوّل قلبه عنها،
لأنّه أسير لذّتها. فالسيّد المسيح وحده قادر بروحه القدّوس أن يغيّر قلب
الإنسان وفكره، ويوجّه أعماقه إلى اللَّه أبيه عوض الخطية المسيطرة عليه.
رابعًا: غافر الخطايا، إذ يمزّق بالصليب
الصك الذي كان علينا ليصير لنا حق التمتّع ببرّه فينا.
"ونحن شهود له بهذه الأمور،
والروح القدس أيضًا الذي أعطاه اللَّه للذين
يطيعونه". [32]
يعلن الرسل استعدادهم للشهادة عن شخص السيّد المسيح
القائم من الأموات، كرئيسٍ ومخلّصٍٍ وواهب للتوبة وغافر للخطايا. فقد اختبروا
قوّة نعمته الفائقة، يسندهم في ذلك الروح القدس الإلهي، الذي هو روح المسيح
الموهوب لأبناء الطاعة للَّه.
جاء ختام حديثهم يؤكّد أنّهم لن يصمتوا لئلا
يُحسبوا خونة للحق وجاحدين للنعمة الإلهيَّة العاملة فيهم.
هكذا ركّز الرسل على شخص المسيح وعمله فيهم الذي لا
ينفصل عن أقنوم الروح القدس الذي يهبه الآب للذين يطيعون الحق.
لم يكن ممكنًا لمجمع السنهدرين أن يحتملوا هذا
الحديث، الذي ينسب ليسوع المصلوب هذه الألقاب الأربعة [الرئيس والمخلّص ومعطي
التوبة وواهب غفران الخطايا] الخاصة بالمسيّا المنتظر. فقد عرف المجمع تمامًا
خلال النبوّات أنها ألقاب خاصة بالمسيّا الذي اشتهى الآباء والأنبياء أن يروه.
قدم الرسول بطرس والرسل الذين معه دفاعًا مختصرًا
وقويًا، جاءت بنوده هكذا:
1. بينما وُجه إلى الرسل الاتهام بالعصيان لأوامر
أعلى سلطة دينية وهي "مجمع السنهدرين"، فإن الرسل مع تمتعهم بسمة التواضع، لم
يقبلوا الخضوع له مادام يأمر بما يضاد الأمر الإلهي لهم. فحسبوا مجمع السنهدرين
يمثل رأي الناس، فلا يُطاع على حساب الطاعة لله نفسه. أن الصراع ليس بين مجمع
السنهدرين والرسل، إنما هو صراع بينهم وبين الله إله آبائهم. هم حكموا على
السيد المسيح بالقتل معلقًا على خشبة، وإله آبائهم أقامه من الموت. فالقضية
موجهة ضد الإله الذي يدعي المجمع أنه إله آبائهم، وأنهم باسمه مجتمعون ولحساب
مجده، بينما هم يقاومون مشيئته.
2. جاء الاتهام أنهم ملأوا أورشليم بتعليمهم، وها
هم الرسل يقدمون التعليم لمجمع السنهدرين. كأنهم يقولون: إننا لم نكمل بعد
الكرازة في كل أورشليم، إذ تشتهي أن تذوقوا أنتم أيضا الحق الإنجيلي.
3. يظن المجمع أنه مسئول عن شئون إسرائيل، خاصة من
الجانب الديني، وتحقيق العدالة، بينما هم يقاومون الرئيس الحقيقي، "هذا رفعه
الله بيمينه رئيسًا". فمن هو الرئيس الحقيقي: المجمع المقاوم لمشيئة
الله، أم ذاك الذي رفعه الله الآب رئيسًا؟
4. وجه الاتهام ضدهم أنهم يجلبون دم هذا الإنسان
على مجمع السنهدرين، وها هم الرسول يصححون لهم الرؤية. إنه ليس بالإنسان
المجهول لكنه الرئيس والمخلص الذي يترقبه إسرائيل منذ بدء نشأته. كشف الرسل
للمجمع عن شخصية المصلوب الذى يريدون الخلاص منه وتبرير صلبهم إياه. أقامه الآب
"مخلصًا"، فهو الذي يهب الخلاص. وكأن الرسل يحاجون رؤساء المجمع قائلين:
هوذا الشعب في رواق سليمان كما في الشوارع قد تمتع بالخلاص، فشُفيت أمراضهم،
وتحرروا من الأرواح النجسة؛ كما أرسل لنا ملاكه وخلصنا من القيود، وأخرجنا من
السجن. إنه مخلص إسرائيل والمدافع عنا، هو وحده يقدر أن يخلصنا من أياديكم،
فليس لكم سلطان علينا إلا بسماح منه وفي الحدود التي يُسمح لكم بها.
5. إن كانت المحكمة قد أصدرت حكمًا خاطئًا بقتله،
فسفكت دمًا بريئًا، فإنه على الصليب غفر لكم هذه الجريمة، لكن بقي أن تؤمنوا
به، إذ "يعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا". هوذا الرسل يحّولون بنود الدفاع
لصالح أعضاء المجمع بدعوتهم للإيمان به، وقبول غفران الخطايا خلال التوبة!
6. أنتم تحاكموننا على أمور تلامسنا معها، نشهد بها
ولا نقدر أن نجحدها. كيف ننكر أنكم صلبتموه؟ وكيف ننكر قيامته من الأموات؟
7. إن كنتم تحاكموننا لأننا نشهد للحق، فإننا لسنا
نشهد من ذواتنا، إنما بالروح القدس روح الله. فهل أنتم قادرون على محاكمته
ومقاومته؟ نحن نلنا روح الله القدوس إذ أطعناه، وها هو يشهد لرسالة السيد
المسيح مؤيدًا ذلك بالآيات والمعجزات التي عملها بنا علانية. فالباب مفتوح
أمامكم لتختبروا ما نختبره، وتتمتعوا بعمل روح الله القدوس إن قبلتم شهادته.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه
العبارة قائلاً بأن الرسول لم يقل: "والروح القدس أيضًا الذي أعطاه الله لنا"،
وإنما قال: "للذين يطيعونه"، قائلاً: [هنا يظهر لطفهم المتواضع، معلنين
عن عظمة العطية، ومظهرين للسامعين أنه يمكنهم هم أيضًا أن يقبلوا الروح.]
هكذا لم ينشغل الرسل بما يحل عليهم من متاعب، وما
يحمله المقاومون لهم من كراهيةٍ شديدةٍ وحقدٍ، إنما يفتحون الباب حتى أمام
المقاومين لهم، يطيعون الحق ويقبلون الروح القدس، ويشاركونهم فيما يتمتعون هم
به.
ليس للرسل عمل آخر سوى الشهادة ليسوع المسيح، إنه
الرئيس والمخلص وواهب التوبة ومانح المغفرة، فقد تعينوا لهذا الهدف.
إنهم شهود للصليب الذي تصحبه قيامة
المسيح وصعوده، ليهب لمؤمنيه الحياة الأبدية، كما هم شهود لعطية الروح
القدس الذي أرسله الابن من عند الآب على الذين آمنوا وأطاعوا.
٥. موقف غمالائيل
"فلما سمعوا حنقوا،
وجعلوا يتشاورون أن يقتلوهم". [33]
إذ سمعوا خطاب الدفاع الذي ألقاه القديس
بطرس لم يكن لديهم ما يجيبون عليهم، لكنهم "حنقوا وجعلوا يتشاورون أن
يقتلوهم" [33]. وقعت الكلمات عليهم كالصاعقة، فامتلأت قلوبهم حنقًا عليهم،
وصاروا يتشاورون. غالبًا ما كانوا يستعينون بالفريسيين بكونهم العلماء أصحاب
المشورة لا لفحص كلمات الدفاع، وإنما كانت للتخطيط لقتلهم رجمًا.
لقد أثارهم الخطاب في النقاط التالية:
1. اتهام مجمع السنهدرين أن ما يصدره ضد إرادة
الله، وأن الرسل ملتزمون بالطاعة لله لا الناس.
2. اتهام أعضاء المجمع أنهم قتلة، وسافكو دم برئ.
3. أن المصلوب هو الرئيس والمخلص، المسيا الذي
ترقبته الأجيال.
4. أنه واهب التوبة لإسرائيل المحتاج إلى التوبة،
وأنه غافر الخطية.
5. أن الرسل شهود لأعمال الله الخلاصية.
6. أن الروح القدس يشهد ويعمل في المؤمنين
الطائعين.
7. أخيرًا فإن الصدوقيين صاروا في خطرٍ، حيث تأكد
الكل من القيامة من الأموات، التعليم الذي ينكروه تمامًا.
فمع قصر الخطاب جدًا لكنه أشبه بسهمٍ قاتلٍ، ملقى
بمهارة فائقة في قلب مجمع السنهدرين، لم يكن أمام المجمع سوى قبول الإيمان
بالسيد المسيح أو الخلاص من رسله بقتلهم.
"فقام في المجمع رجل فريسي اسمه غمالائيل معلم
للناموس،
مُكرّم عند جميع الشعب،
وأمر أن يخرج الرسل قليلاً". [34]
كان جناح الصدوقيين في ثورة عارمة ضد
الرسل، ففي أذهانهم لا يمكن حسم الأمر إلا بقتل الرسل. لكن مع أنهم يمثلون
الأغلبية في مجمع السنهدرين إلا أنهم كانوا في حاجة إلى كسب الفريسيين في صفهم.
يقول يوسيفوس إن فريق الفريسيين في المجمع كان قليلاً من جهة العدد، لكن لهم
شعبيتهم وتأثيرهم القوي على الشعب. لهذا لم يكن ممكنًا للصدوقيين أن يأخذوا
قرارًا ولو بأغلبية المجمع ما لم يوافق عليه غالبية الفريسيين.
شعر الفريسي غمالائيل معلم الناموس، وهو الابن
الأكبر لهلليل الكبير، ومعلم شاول الطرسوسي (أع 22: 3)، ويُقال أنه ابن سمعان
الشيخ الذي حمل الطفل يسوع على ذراعيه في الهيكل، أن موقف المجمع أشبه بمحاربة
الله نفسه. لعله قبل داخليًا دفاع القديس بطرس. قيل أنه آمن بالسيد المسيح مع
نيقوديموس ومع ابنه على يدي القديسين بطرس ويوحنا، وأنه بقي مسيحيًا في الخفاء.
غير أن بعض الدارسين يرون أنه أخذ هذا الموقف ليس اقتناعًا بما سمعه، وإنما
لأنه كان يحمل فكرًا متحررًا، فلا يؤمن باستخدام العنف في الدين.
v "فرّيسي" اسم معناه "الذين يميّزون
(يعزلون) أنفسهم (كمكرّسين للَّه). لقد تبعوا طريقة حياة حسبوها أفضل حياة.
حسبوا طريقهم أسمى من كل الآخرين، يركّزون على القيامة، ووجود الملائكة، وعلى
قداسة الحياة. اتّبعوا حياة صارمة، ومارسوا النسك والامتناع عن العلاقات
الجنسيّة في فترات معيّنة، وكانوا يصومون يومين في الأسبوع. كانوا يغسلون
قدورهم وأطباقهم وكؤوسهم بطقوسٍ معيّنة، كما يفعل الكتبة، ويقدّمون العشور
والبكور، ويكرّرون صلوات كثيرة.
الأب يوحنا الدمشقي
"ثم قال لهم:
أيها الرجال الإسرائيليون،
احترزوا لأنفسكم من جهة هؤلاء الناس،
في ما أنتم مزمعون أن تفعلوا". [35]
"لأنه قبل هذه الأيام قام ثوداس قائلاً عن نفسه أنه
شيء،
الذي التصق به عدد من الرجال نحو أربع مائة،
الذي قُتل،
وجميع الذين أنقادوا إليه تبدّدوا،
وصاروا لا شيء". [36]
لم نعرف شيئًا عن ثوداس سوى ما ورد هنا، وهو حتمًا
غير ثوداس الوارد في يوسيفوس الذي قام في أيام فادوس
Fadus الوكيل على اليهودية في عهد
الإمبراطور كلاديوس Claudius (45 أو 46م)،
الذي اجتذب كثيرين وذهب معهم إلى نهر الأردن، مدعيًا النبوة، وأنه يشق النهر
ليعبروا فيه. انقض عليهم فادوس وقتل كثيرين، ثم أخذ ثوداس إلى أورشليم حيث قطع
رقبته. هذا تم بعد عشرة أو خمسة عشر عامًا بعد حديث غمالائيل الوارد هنا. يرى
لايتفوت أن يوسيفوس أخطأ في تأريخ ثيوداس، وأن ما ورد فيه هو ذات الرجل الذي
تحدث عنه غمالائيل.
يرى البعض أن كلاًً من لوقا البشير ويوسيفوس
صادقان، لأنهما مؤرخان مدققان، وأن اسم ثوداس كان شائعًا في ذلك الحين، وليس
بمستبعدٍ ظهور شخصين بذات الاسم قاما بالثورة أحدهما يلي الآخر بعد هذا الزمن.
وأن شخصية مثل غمالائيل لا يمكن أن تشير إلى حدث كهذا في مجمع السنهدرين لو لم
يكن الأمر أكيدًا ومعروفًا لدى أعضاء المجمع.
هذا ويبدو أن الثورات كانت كثيرة للغاية في منطقة
اليهودية كما أشار يوسيفوس. أما قوله: "قائلاً عن نفسه شيئًا"، فيعني
أنه ادعى بأنه بارز أو المسيا المنتظر.
"بعد هذا قام يهوذا الجليلي في أيام الاكتتاب،
وأزاغ وراءه شعبًا غفيرًا،
فذاك أيضًا هلك،
وجميع الذين انقادوا إليه تشتتوا". [37]
يهوذا الجليلي: كان ينادي بعدم دفع الجزية
للرومان، وقد قام الرومان بسحقه هو وأتباعه. لكن ورث جماعة الغيورين تعليمه،
وحاولوا الإيقاع بالسيد المسيح بسؤاله عن دفع الجزية (مر 12: 13-17). وقد قاموا
بثورةٍ فيما بعد ضد الرومان، لكن الرومان تحت قيادة تيطس دخلوا أورشليم،
وأحرقوا الهيكل، وبددوا الأمة اليهودية.
"والآن أقول لكم:
تنحوا عن هؤلاء الناس واتركوهم،
لأنه إن كان هذا الرأي أو هذا العمل من الناس فسوف
ينتقض". [38]
"وإن كان من اللَّه،
فلا تقدرون أن تنقضوه،
لئلاّ تُوجدوا محاربين للَّه أيضًا". [39]
طالب كبير معلمي الناموس بترك الرسل، مقدمًا لهم
مثلين عمليين وهما ظهور ثوداس ويهوذا الجليلي، وكيف التف حولهما البعض، ولكن
لأن الأمر لم يكن حسب فكر الله فشلا. لقد أعلن غمالائيل بطريقة خفية عن حالة
إفلاس مجمع السنهدرين والمشيخة في كل إسرائيل من جهة معرفة الله، وعجزهم عن
التمييز بين ما هو حسب فكر الله، وما هو حسب فكر الناس.
عندما عزل هيرودس أرخيلاوس
Archelaus ، أحد أبناء هيرودس الكبير (مت2: 1، 22) من حكم اليهودية،
صارت الدولة يديرها حاكم روماني؛ نادى يهوذا الجليلى بالامتناع عن دفع الجزية
للرومان، فأثار مشاعر الشعب الدينية والوطنية للثورة العنيفة. أعلن أن الله
وحده هو ملك إسرائيل، وهو وحده له الحق أن يملك على الشعب اليهودي.
تحدث عنه يوسيفوس ودعاه "الجليلي
Galilean ، وفي موضع آخر دعاه أنه من
مدينة جمالا Gamala.
ذكر يوسيفوس أن الحاكم الروماني هو
Cyrenius سناتور(عضو مجلس للشيوخ) روماني،
جاء إلى سوريا ليحكم تلك الأمة، ويهتم بشأنها. يقول يوسيفوس أنه جاء إلى
اليهودية التي أضيفت إليه مع سوريا ليدبر أمورها، وأنه وضع أموال أرخيلاوس تحت
تصرفه. فأخذ يهوذا صادوق Saddoak وهو
فريسي غيور، ونادى الاثنان بأن دفع الجزية ليس إلا مدخلاً للعبودية، وطالب
الأمة بأن تدافع عن حريتها. وأن هذه الثورة فتحت بابًا للثورات متعددة لم تنقطع
حتى تم تدمير المدينة والهيكل والأمة نفسها.
على أي الأحوال لم يعطِ غمالائيل المجمع فرصة
مراجعة قرارهم السابق بخصوص تسليم السيد المسيح للصلب. لم يطلب منهم أن يبحثوا
عن الحق. لكن من الواضح أن غمالائيل كان قد وضع في قلبه وجال في فكره احتمال أن
هذه الحركة التي يقوم بها الرسل هي من الله، لكنها فكرة تتردد عليه، ولم يكن
بعد قد اقتنع بها تمامًا.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن ما قاله
غمالائيل هنا سبق فأعلنه السيد المسيح: "لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن
قد أُعطي من السماء" (يو 3: 27). فإن هؤلاء كانوا يحاولون المستحيل وسيُوجدون
محاربين لله. حسنًا، لكن ألم يأخذ ثيوداس وأتباعه شيئًا من أنفسهم؟ لقد أخذوا،
ولكن للحال تشتتوا وهلكوا، وهذا ليس حال المسيح.
قدم غمالائيل رأيًا سديدًا مملوء حكمة وهو:
1- أن مقاومة الحركة الشعبية أمر غير حكيم، يدفع
الناس إلى العناد وعدم التفكير في الأمر في تروٍ وتعقلٍ.
2- ترك الخطأ وتجاهله إلى حين غالبًا ما يقضي عليه.
3- أن الإيمان بيسوع المسيح يحتاج لا إلى المقاومة
بتعصبٍ وحماسٍ دون دراسة وتعرف إن كان الأمر من الله أم من الناس.
4- يطالبهم بالثقة في الله حافظ الإيمان، وفي
عنايته بشعبه، فإن سُلم بين يديه يعلن الحق.
5- خشي لئلا يسقط المجمع في مقاومة الله نفسه وهو
لا يدري، فتكون غيرتهم باطلة.
v أراد أن ينصحهم بالعدول عن رأيهم باعتبار
أن هذا الأمر مستحيل (إن كانوا يقاومون ما هو من الله)، وفي نفس الوقت ليس
لصالحهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فانقادوا إليه،
ودعوا الرسل وجلدوهم،
وأوصوهم أن لا يتكلّموا باسم يسوع،
ثم أطلقوهم". [40]
لقد أعمى الشيطان أعين قضاة إسرائيل عن فحص
قضية يسوع المسيح المصلوب. ولعلهم في داخلهم كانوا يشعرون مع غمالائيل أنهم
يحاربون الله، يقاومون الحق ويرفضون الخلاص.
على أي الأحوال اقتنع المجمع بعدم قتل الرسل، لكن
الغيرة التي ملأت قلوبهم جعلتهم يصرون على ضربهم أو جلدهم مع إصدار أمر ألا
يتكلموا باسم يسوع. اخذوا بمشورة غمالائيل جزئيًا، خشية أن يفقدوا مهابتهم
وسلطانهم أمام الشعب.
٦ - كلمة الله لا تُقيد
"وأمّا هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع،
لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه".
[41]
ظن أعضاء المجمع أن الرسل لن يعودوا
للظهور أمام الشعب بعد أن حلّ بهم عار الجلد، وأنهم يصيروا في خزي. فقد
كان الجلد يمثل عارًا وامتهانا لآدمية الإنسان، أما بالنسبة للرسل
فحسبوه كرامة ومجدًا، لأن فيه شركة في آلام السيد المسيح وصلبه. كان الدم
المتفجر من أجسامهم متعة الاصطباغ، حتى يترنموا: "من أجلك نُمات كل النهار" (رو
8: 36). "لقد جلدوهم"، هذه ضريبة هينة للغاية من أجل الشهادة للحق.
تحولت آلام الجلد التي لا تُحتمل إلى فرحٍ وشعورٍ
بالكرامة في المسيح يسوع. هذا ليس عملاً بشريًا، إنما هو عمل الروح القدس فيهم
الذي يسمح للمؤمنين أن يشربوا من ذات الكأس التي قبلها ربنا يسوع من أبيه!
خرج التلاميذ يكرزون بالفرح الروحي في الرب: "فرحين
في الرجاء، صابرين في الضيق". (رو 12: 12)
v إن كان الطريق ضيقًا وصعبًا فكيف يكون:
"نيري هين وحملى خفيف"؟ إنه صعب بسبب طبيعة التجارب، لكنه هين بسبب رضى
المسافرين. فإنه يمكن حتى بالنسبة لما هو غير محتمل بالطبيعة أن يصير خفيفًا
عندما نتقبله بشغفٍ. تذكروا أن الرسل الذين جَُلدوا رجعوا فرحين أنهم حسبوا
أهًلا أن يهانوا من أجل اسم الرب.
القديس يوحنا ذهبى الفم
لماذا لا يزال يُهان الرسل؟
1. لأن يسوع المسيح موضوع كرازتهم هو نفسه مُحتقر
ومرذول.
2. وصاياه تُقاوِم الملذّات العالميّة والرجاسات.
3. يظن البعض أن دعوة ربّنا يسوع المسيح السماوي
ترفع القلب والفكر إلى السماء، فيعيش الإنسان كغريبٍ على الأرض، لا يمارس
الحياة العمليّة الواقعيّة، ممّا يسبب له فشلاً.
4. روح الإيمان من حب وتواضع ووداعة وبذل وعطاء
يناقض روح العالم من اعتداد بالذات وحب السلطة والانتقام.
5. الإيمان المسيحي دعوة للحياة الجادّة، خاصة في
العبادة من حِملٍ للصليب وأصوامٍ ومطانيات وأسهار.
لماذا فرح الرسل؟
1. صاروا على شبه ربنا يسوع الذي جُلد وأُهين من
أجل المحبة (في3:10؛ كو 1: 24؛ 1 بط 4: 13). إنهم شركاء السيد المسيح في آلامه.
2. حسبوا الآلام شهادة حية أنهم صاروا تلاميذ
المسيح وأتباعه ومحبيه الأعزاء لديه، يشاركونه أتعابه.
3. تحقق فيهم ما سبق فوعدهم به السيد نفسه.
4. إنها آلام خفيفة، لا تقارن بالمجد العتيد أن
يُستعلن (مر 10: 30).
5. إنه ليس من أمرٍ يخجل الإنسان ويجعله في عار سوى
الخطية.
"وكانوا لا يزالون كل يوم في الهيكل وفي البيوت،
معلِّمين ومبشرين بيسوع المسيح". [42]
حوّل الروح القدس الآلام إلى فرحٍ في الرب، هذا
الذي قيل عنه: "فرح الرب هو قوتكم" (نح 8: 10). نالوا قوة وشجاعة للشهادة للحق
كل يوم في الهيكل كما في البيوت. صارت حياتهم رحلة مستمرة للتعليم والتبشير
بيسوع المسيح.
اهتموا بالتعليم حيث كُتبت أسفار العهد الجديد
بإعلان الروح القدس، ونظمت العبادة والتدبير الكنسي، فظهرت بعض الكتابات التي
ترجع إلي عصر الرسل مثل الديداكية وقد سبق لي ترجمتها والتعليق عليها.
من وحي أعمال الرسل ٥
لتكرس قلبي كله لك!
v ترتعب نفسي في داخلي، لئلا أحمل روح
حنانيا وسفيرة.
باعا ملكًا لهما، لكي يُقدما كل الثمن لك.
لم تكن محتاجًا إلى مالهما،
لكنك حسبت ما قدماه قدسًا لك.
اعتديا على المال، فاعتديا على المقدسات.
فجأة ماتا جسديًا، إعلانًا عن موتهما داخليًا!
v ها أنا أكرس حياتي كلها لك!
نفسي وجسدي بكل طاقاتهما!
مواهبي ووقتي وكل ما لي هو لك.
هب لي أن أكون أمينًا،
فلا أعتدي على مقدساتك!
ليكن حتى أكلي وشربي ونومي لمجدك!
لأحمل رائحتك الزكية،
فلا يكون للدنس موضع فيّ!
قدسني بالتمام، وكرِّس قلبي كله لك، يا أيها
القدوس.
v ليمت حنانيا وسفيرة اللذان في قلبي!
ولتسمر خوفك المقدس في أعماقي،
فأصير شاهدًا لك أمام الجميع!
v هب لي روحك القدوس يحول كياني إلى عجبٍ!
فيتقدس كياني كله،
وأصير آلة برّ لحساب ملكوتك.
v ليهج الأشرار العاملون لحساب مملكة
الظلمة.
فالفساد يتبدد أمام عدم الفساد،
والظلمة لا وجود لها في ظهور النور!
v ترسل لي ملائكتك لحراستي،
وتفجر متاريس السجن والهاوية.
تقيمني في كل يومٍ كما من القبر.
تهبني روح القوة، فأتمم إرادتك.
تحول ضيقاتي إلى مصدر فرح وبهجة.
وتتحول حياتي كلها إلى شهادة لعملك الإلهي!
1 و رجل اسمه حنانيا و امراته سفيرة باع ملكا
2 و اختلس من الثمن و امراته لها خبر ذلك و اتى بجزء و وضعه عند ارجل الرسل
3 فقال بطرس يا حنانيا لماذا ملا الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس و تختلس
من ثمن الحقل
4 اليس و هو باق كان يبقى لك و لما بيع الم يكن في سلطانك فما بالك وضعت في
قلبك هذا الامر انت لم تكذب على الناس بل على الله
5 فلما سمع حنانيا هذا الكلام وقع و مات و صار خوف عظيم على جميع الذين سمعوا
بذلك
6 فنهض الاحداث و لفوه و حملوه خارجا و دفنوه
7 ثم حدث بعد مدة نحو ثلاث ساعات ان امراته دخلت و ليس لها خبر ما جرى
8 فاجابها بطرس قولي لي ابهذا المقدار بعتما الحقل فقالت نعم بهذا المقدار
9 فقال لها بطرس ما بالكما اتفقتما على تجربة روح الرب هوذا ارجل الذين دفنوا
رجلك على الباب و سيحملونك خارجا
10 فوقعت في الحال عند رجليه و ماتت فدخل الشباب و وجدوها ميتة فحملوها خارجا و
دفنوها بجانب رجلها
11 فصار خوف عظيم على جميع الكنيسة و على جميع الذين سمعوا بذلك
12 و جرت على ايدي الرسل ايات و عجائب كثيرة في الشعب و كان الجميع بنفس واحدة
في رواق سليمان
13 و اما الاخرون فلم يكن احد منهم يجسر ان يلتصق بهم لكن كان الشعب يعظمهم
14 و كان مؤمنون ينضمون للرب اكثر جماهير من رجال و نساء
15 حتى انهم كانوا يحملون المرضى خارجا في الشوارع و يضعونهم على فرش و اسرة
حتى اذا جاء بطرس يخيم و لو ظله على احد منهم
16 و اجتمع جمهور المدن المحيطة الى اورشليم حاملين مرضى و معذبين من ارواح
نجسة و كانوا يبراون جميعهم
17 فقام رئيس الكهنة و جميع الذين معه الذين هم شيعة الصدوقيين و امتلاوا غيرة
18 فالقوا ايديهم على الرسل و وضعوهم في حبس العامة
19 و لكن ملاك الرب في الليل فتح ابواب السجن و اخرجهم و قال
20 اذهبوا قفوا و كلموا الشعب في الهيكل بجميع كلام هذه الحياة
21 فلما سمعوا دخلوا الهيكل نحو الصبح و جعلوا يعلمون ثم جاء رئيس الكهنة و
الذين معه و دعوا المجمع و كل مشيخة بني اسرائيل فارسلوا الى الحبس ليؤتى بهم
22 و لكن الخدام لما جاءوا لم يجدوهم في السجن فرجعوا و اخبروا
23 قائلين اننا وجدنا الحبس مغلقا بكل حرص و الحراس واقفين خارجا امام الابواب
و لكن لما فتحنا لم نجد في الداخل احدا
24 فلما سمع الكاهن و قائد جند الهيكل و رؤساء الكهنة هذه الاقوال ارتابوا من
جهتهم ما عسى ان يصير هذا
25 ثم جاء واحد و اخبرهم قائلا هوذا الرجال الذين وضعتموهم في السجن هم في
الهيكل واقفين يعلمون الشعب
26 حينئذ مضى قائد الجند مع الخدام فاحضرهم لا بعنف لانهم كانوا يخافون الشعب
لئلا يرجموا
27 فلما احضروهم اوقفوهم في المجمع فسالهم رئيس الكهنة
28 قائلا اما اوصيناكم وصية ان لا تعلموا بهذا الاسم و ها انتم قد ملاتم
اورشليم بتعليمكم و تريدون ان تجلبوا علينا دم هذا الانسان
29 فاجاب بطرس و الرسل و قالوا ينبغي ان يطاع الله اكثر من الناس
30 اله ابائنا اقام يسوع الذي انتم قتلتموه معلقين اياه على خشبة
31 هذا رفعه الله بيمينه رئيسا و مخلصا ليعطي اسرائيل التوبة و غفران الخطايا
32 و نحن شهود له بهذه الامور و الروح القدس ايضا الذي اعطاه الله للذين
يطيعونه
33 فلما سمعوا حنقوا و جعلوا يتشاورون ان يقتلوهم
34 فقام في المجمع رجل فريسي اسمه غمالائيل معلم للناموس مكرم عند جميع الشعب و
امر ان يخرج الرسل قليلا
35 ثم قال لهم ايها الرجال الاسرائيليون احترزوا لانفسكم من جهة هؤلاء الناس في
ما انتم مزمعون ان تفعلوا
36 لانه قبل هذه الايام قام ثوداس قائلا عن نفسه انه شيء الذي التصق به عدد من
الرجال نحو اربعمئة الذي قتل و جميع الذين انقادوا اليه تبددوا و صاروا لا شيء
37 بعد هذا قام يهوذا الجليلي في ايام الاكتتاب و ازاغ وراءه شعبا غفيرا فذاك
ايضا هلك و جميع الذين انقادوا اليه تشتتوا
38 و الان اقول لكم تنحوا عن هؤلاء الناس و اتركوهم لانه ان كان هذا الراي او
هذا العمل من الناس فسوف ينتقض
39 و ان كان من الله فلا تقدرون ان تنقضوه لئلا توجدوا محاربين لله ايضا
40 فانقادوا اليه و دعوا الرسل و جلدوهم و اوصوهم ان لا يتكلموا باسم يسوع ثم
اطلقوهم
41 و اما هم فذهبوا فرحين من امام المجمع لانهم حسبوا مستاهلين ان يهانوا من
اجل اسمه
42 و كانوا لا يزالون كل يوم في الهيكل و في البيوت معلمين و مبشرين بيسوع
المسيح
|